الحَراك المدني وأسئلة البناء الديمقراطي في المغرب
عربي
منذ 3 ساعات
مشاركة
خُيل لفئة من المعارضين الرقميين، الصدّاحين في الشبكات الاجتماعية، أنّ "انتفاضة" الشباب الغاضب الذي طوّق مدناً مغربية كثيرة، في غفلة تامة عن منظوراتهم وعن مراقبة الأجهزة الأمنية، بالصراخ المبحوح والشعارات المطالبة بالصحة والتعليم، ويضيفون إليهما، في بعض المسيرات، هتافات تتعلق بالكرامة والعيش الكريم، خُيّل لهم أن الثورة قد أهلّت، ولعلها على الأبواب تستصرخهم لكي يهبّوا لغنم ما لم يغنموه بالأسلوب السياسي المباشر الذي جرّبوه في مواقعهم الرقمية، فلم يكن لهم منه إلا الفتور والانتظار واليأس تقريباً بمشاركاتٍ لم تتفتق عن أية خلاصة أو حل. والأهم أن الحراك الشبابي حظي باهتمام بالغ منهم لم تحظ به من قبل، إلا على نحو فاتر، حركات اجتماعية قوية المطالب والأهداف في مناطق مختلفة وهامشية من البلاد. وتحوّل الاهتمام منذ الأيام الأولى، ثم صار مشاركة وتحريضاً، إلى أسلوب يُذَكِّر هؤلاء المعارضين الرقميين بـ"عشيّة الثورة" في القرن الماضي، فيكون من المحتمل أن تنهار فيها قوّة "المخزن"، أو الدولة العميقة، أو ما شابه، فَيَنقضّ الشباب المُحتجّ، بحماستهم المغرقة في الادّعاء (بأنهم لا يتبعون حزباً، ولا يوالون إيديولوجيا، ولا يعادون ملكية)، على الوضع مِصداقاً لمنظورهم "الثوري" الافتراضي، راضين مطمئنين، إلى أنّ الخلاص سيأتي من خلال خطاب ملكي يُلْقَى تحت قبّة البرلمان، أو أنّ إسقاط الحكومة الحالية سيكون على يده لا من طريق صناديق الاقتراع، أما التعديل الدستوري على نحو ما جرى في 2011 فمستبعد، لأن الظرف مختلف، والتغيير موجود، والأزمة الذاتية لا تبيح التوقّع ولا يسعفها خيال. ولي أن أقول: إن الشباب عندما اندفعوا في الاحتجاج، بعد احتشادهم بسبب دعوات ومناقشات في تطبيق "ديسكورد"، مع استبعاد فكرة المؤامرة والخصوم وما شابه، وجدوا أنفسهم مطالبين بالتعبير عن اختياراتهم السياسية ودوافعهم النضالية، وهل من الممكن أن يكون لـ"عقل" إقليمي، أو لِيَدٍ أجنبية أي دور، يجب التبرّؤ منه حتماً، فيما خرجوا من أجله وطالبوا به؟ على هذا الأساس وضعوا لوجود حركتهم في الشوارع اسماً (GenZ 212)، ثم انطلقوا في التعبير عن أمانيهم وإطلاق الشعارات من حولهم، إلى أن ظهر أن وراء الشباب "المهذّب"، ولو أن وعيه السياسي بالاختيارات الأساسية التي تتحكّم في تطور الأوضاع الاجتماعية والسياسية في البلاد منذ عقود، ضعيف أو منعدم، يوجد وجوداً حقيقياً شباب مُلَثَّمٌ لا وجه له، ولا يعنيه من أمر التظاهر في الشارع العام إلا الخطف والنهب والتدمير. حظي الحراك الشبابي في المغرب باهتمام بالغ لم تحظ به من قبل، إلا على نحو فاتر، حركات اجتماعية قوية المطالب والأهداف في مناطق مختلفة وهامشية من البلاد كانت المواجهة القمعية شديدة منذ الأيام الأولى، لم "تنتظم" نسبياً إلا عندما ركن شبابُ الحراك إلى نوعٍ من الهدوء المعنوي، وشيء من التنظيم، ورغبة مكشوفة في أن تكون الصورة التي يريدون للسلطات أن تكون لها عنهم حسنة وسلمية، لا انقلابية ثورية، فيها الموالاة للثوابت المقرّرة دستورياً مضمونة سلفاً، ولو بطريقة فيها مَلْمَح من "فهلوة" منظّمي الاحتجاجات الاجتماعية عندما يرفعون صورة الملك لمعارضة اختيارات نظامه، علماً أن أسلوب الموالاة هذا لا يبرُز، في لحظات التوتر القوية، إلا بسبب الخوف الذاتي العميق من شطحات التأويل السياسي والخروج عن الطاعة العمياء. أريد القول بهذا، فكرياً وسياسياً، وعلى خلاف ما قد يُؤَوَّل به، إنّ الحَراك الشبابي ليس أكثر من مظهر من مظاهر الاحتجاج الاجتماعي الذي تعبّر عنه وبه، حسب الأوضاع والظروف، فئات مختلفة ومتباينة من المجتمع المتضرّر، في المدن والبوادي، في أحواله المعيشية والحياتية بصفة عامة، قصد التنديد بما فيها من تدهور وخصاص، والمطالبة الملحّة، في الآن نفسه، بضرورة تحسينها أو إصلاحها. وفي مفهوم "المجتمع المتضرّر" بصورة واضحة كل العلامات المؤشّرة على الأزمة المجتمعية بمختلف أبعادها، اقتصادية وسياسية وقيمية، وربما وجودية إذا ما أشرتُ إلى "الوعي الجمعي" الذي فَقَدَ، في حُمَى النفعية المُعَمَّمَة، تلك التوجهات التي كانت توجه نضاله، أو تشعره بمستقبله، ضمن حركة المعارضة الإصلاحية التي استوطنت الساحة السياسية عقوداً. كذلك يمكن اعتبار الحراك الشبابي، لطبيعته، من بين مظاهر النضال الديمقراطي الذي بلغ أوجه في عشرية الثمانينيات وما تلاها، قبل أن يتحوّل، اعتماداً على مفهوم "العهد الجديد"، إلى مرحلة مختلفة مرجعيتُها انتقال المُلك الذي أطلق ديناميكية مختلفة تعلقت بها وُعُود كثيرة ارتبطت، على وجه الخصوص، بفكرة "الانتقال الديمقراطي"، وسارت في ركابه، باسم "العدالة الانتقالية"، قبل أن تنقشع لكثيرين أوهامهما ومعضلاتهما، أي من دون أن تطرأ على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، على مستوى الاختيارات الجوهرية المرتبطة بنظام الإنتاج (العلاقة بين القوى الإنتاجية وعلاقات الإنتاج) والسوق (مجموع المعاملات لآلية وتبادل الخبرات، أو الخدمات بين الأفراد)، ما كان من المُقَدَّر أن يُغيِّر من طبيعتها في الحدود المقبولة تحت سلطة دولة المؤسّسات والحقوق. ويرتبط بهذا مظهر آخر له علاقة بتخلّف (وضمور) الدور السياسي والتنظيمي للأحزاب المسماة وطنية ديمقراطية، تلك التي قادت معارك النضال الديمقراطي ضد النظام السائد في شروط استثنائية، عرَّضها، في مراحل كثيرة، للتضييق والتهميش، كذلك فإنه امتحنها في إيديولوجياتها ومواقفها وبرامجها السياسية، مثلما أوجب عليها شروطاً للعمل تميّزت بالاختراق والنفعية. يمكن اعتبار الحراك الشبابي من بين مظاهر النضال الديمقراطي مرادي أن أقول إن جميع الأحزاب المعارضة التي حملت مشعل التغيير، أو الإصلاح، أصيبت بنكساتٍ متواليةٍ تعود، في المجمل، إلى ظروف القمع والحصار التي سُلّطت عليها، بما في ذلك السعي الحثيث الممنهج إلى تقسيمها، أو تحجيمها، أو هما معاً، وكذا لطبيعة أوضاعها الداخلية التي لم تتلاءم مع أسلوب التنظيم الديمقراطي الداخلي، فتعلّقت بالزعامة والاستبداد بالرأي واضطهاد الأقلية وغير ذلك، من دون أن يغرب عن البال تخلي تلك الأحزاب عن معظم الشعارات التي صاحبت نضالها وعبّرت عن قوته من قبل (التعادلية بالنسبة إلى حزب الاستقلال، الاشتراكية العلمية بالنسبة إلى حزب الاتحاد الاشتراكي، الثورة الوطنية الديمقراطية بالنسبة إلى حزب التقدّم والاشتراكية وهكذا). مظهران أساسيان إذن يفيدان، من خلال التحليل والتأويل، بأن الحراك الشبابي ليس ظاهرة معزولة، أو نبتة برّية، أو صوتاً يتكئ على فرادة معينة، أو ابتداعاً خاصاً لأشكال سحرية في النضال المجتمعي. ففي علاقة بتاريخ النضال الديمقراطي، وفي علاقة أخرى بطبيعة الأوضاع القائمة، من حيث الاستغلال والتدهور، لم يكن الحراك الشبابي، وأي حراك كيفما كانت دوافعه والأجيال المشاركة فيه، إلا صيغة متجدّدة للعمليات المتواصلة في الزمن، رغم الانقطاعات الظرفية تبعاً لتغير الظروف والمناخات والوعي السياسي النضالي، لسيرورة المطالبة المدنية بالحقوق ومعارضة الاختيارات المسنونة، والتحسيس بالتدهور الذي يعمّ مختلف القطاعات المرتبطة بحياة الناس في المجتمع، بادية ومدينة. ولذلك يوجد التعليم كما توجد الصحة، وإلى جانبهما ما هو من أشكال و"أوضاع" الفساد والريع والمحسوبية، التي تُخرّب بنيات المجتمع وسلوك المواطن ووجود الدولة نفسها، في كل المعارك التي خيضت ضد التفقير والتهميش والتجهيل منذ انتفاضة 23 مارس (1965). الأحزاب المعارضة التي حملت مشعل التغيير، أو الإصلاح، أصيبت بنكساتٍ متواليةٍ تعود، في المجمل، إلى ظروف القمع والحصار التي سُلّطت عليها من المفيد أن أضيف إلى التحليل هذا ثلاث حلقات متكاملة تلقي مزيداً من الضوء على الطبيعة السياسية العامة لأشكال الاحتجاج التي تُخاض في الوقت الراهن. وأشير بذلك إلى البروز التام للدور الإسلاموي العلني، إلى جانب فئة اليساريين "المركزيين" المهمومين بالتغيير الاجتماعي، بصورة منظّمة وفاعلة في المعارضة السياسية والدينية ذات الأفق الراديكالي، وانخراط فئات من الشباب المتعلم والعاطل من العمل، وبعض الفئات الدنيا من الطبقة الوسطى، بأعداد غفيرة في حركية النضال المجتمعي، ولو كان دون أفق سياسي مُدرك. وإلى ذلك، أضيف أثر التطور التكنولوجي، المعلوماتي والرقمي، من خلال شبكات التواصل الاجتماعي وتطبيقات "ميتا" Meta المستخدمة على نطاق واسع، إلى جانب أسلوب الذكاء الاصطناعي المُتَسَيّد في قطاعاتٍ كثيرة، لما في ذلك كله من إمكانات أفقية هائلة للتواصل والتحريض والتعبئة والتعليق والمشاهدة وسوى ذلك. خلاصتي التي أنطلق فيها من وجود "مجال شرعي" يكون بديلاً مفترضاً لقيام الديمقراطية اختياراً، تقودني إلى القول إن "المجال الشرعي" المُؤَطِّر لممارسة العمل السياسي والنضال الاجتماعي، هو نِطَاقٌ، أو فضاء، محدّد سلفاً، محكوم بالتوافقات التي تحد من انفتاحه وتلغي كل اختلاف فيه بقوة الموالاة لا المعارضة، فهو يرسم المسار السياسي، ويفرض التوجهات التي يمكن أن يسير فيها بطريقة مضمونة تقرّرها السلطة العليا باعتبارها سلطة توافق. وهو إذا كان يضمن الاستقرار السياسي مبدئياً، فإنه لا يحقق السلم الاجتماعي بالضرورة. وهذا يعني أنه يصادر كل عمل ديمقراطي رشيد يدعو إلى الإصلاح الفعلي، أو إلى التغيير الجذري. فالغائب الأكبر في "المجال الشرعي" هو الديمقراطية نفسها، ولو كانت تصوّراً نظرياً لاقتراح سياسة إصلاحية تكون رافعة لدولة المؤسّسات المبنية على الحقوق والحرّيات، كذلك قد تكون مشروعاً فعلياً للنهوض بأعباء التطور الاجتماعي في ضوء مبادئ العدل والمساواة والنزاهة والتوزيع المنصف، ما أمكن، للخيرات الوطنية، كذلك فإنّ فيه ما يعني، بطبيعة الحال، القضاء الممكن على الاستغلال الفاحش والفساد المعمم ومطلق التحكم. والواقع أنّ "المجال الشرعي" لا يصوغ الإرادة الشعبية، بل يكرّس الولاء من خلال الاستبداد. وفي ذلك ما قد يشرح لكل معارض رقمي، لماذا يكون الاحتجاج، من غير اعتبار لأي توصيف، في حاجة ماسّة إلى وَعْي ونظريةٍ وتنظيم ديمقراطي محكم.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية