
عربي
إنه "القارئ"، سمّته جوسلين ولن نعثر على اسم آخر له، هو كذلك عند نفسه، إنه ما يقرؤه، في رواية "الحياة ليست رواية" (منشورات المتوسط، 2025) للكاتب اللبناني عبده وازن. له حياة مقابلة بالطبع. إنه واحد من ثلاثي يضمه إلى جوزف وجوسلين، يحب جوزف صديقاً، ويحب جوسلين حباً غامراً لكن جوسلين، كما في مسرحية، غارقة في حب جوزف. هذا ما يضنيه لكنه شعور متضاد، فهو يستمر في حب جوزف، بل يحب حب جوسلين له. شعور متضاد يبدو، أنه هو الآخر، من قبيل الرواية. قُتل أبوه بقذيفة سورية، وقتل والد جوسلين على حاجز، إنها الحرب اللبنانية، واضح أن القارئ وجوسلين خارجان من قصة عاصفة، لقد بدأت حياتهما بتراجيديا كاملة. أما جوزف فما وراءه ليس أقل هولاً، إنه ابن بالتبني، قد تكون أمه، كما يذكر هو، عاهرة. الثلاثة لم تكن لهم بدايات عادية، إنها بدايات تصلح للروايات أو مسرحية، ولعهم بالرواية قد يصدر عن واقع لا يقل صخباً ودراماتيكية عن رواية. مع ذلك لهم الثلاثة رواياتهم الخاصة، التي لم تقل حدة عن البدايات.
جوزف يسقط صريعاً بعد حادث، ويدخل في غيبوبة تفضي به إلى الموت. ليست هذه مباشرة قصة القارئ وجوسلين، لكنه ستنهي القصة كلها. النهاية ليست أقل دراماتيكية، موت جوزف ورحيل جوسلين ولوعة القارئ. إنها فقط حامية، مع ذلك ليست هذه القصة وحدها، بل هي ليست إلا فضاءها، إنها واسطة بل مقدمة لأمر آخر، قد نسميه موسوعة الرواية، بكل ما فيها، كتبها وكل ما تطل عليه، وما تستولده من مواضيع، وما يتصل بها وينبني عليها، بل بقراءتها وأشخاصها وأبطالها وكتّابها، بدءاً من الرواية الأولى مروراً بكل الكتاب وكل الروايات. نحن إذن أمام حياة أخرى ليست منفصمة عن الحياة الأولى. الرواية وهي تتدفق، تتدفق على لسان القارئ ولسان جوسلين، وأقل منهما جوزف. إنها ليست غريبة عنهما، بل هي ليست دراسة ولا مبحثاً ولا أطروحة. هي بالطبع أكثر من رواية، يقلل "القارئ" من كلف جوزف بالرواية فيسميه هواية. إنها عضوية في الحياة، إنها في صلبها، قد لا تكون حياتهم كلها، لكن الحياة تنطق بها، تتكلمها طوال الوقت. نحن هكذا لا نملك أن نجد ذكريات ومشاعر وأحلاماً وعلاقات وصداقات وأفكاراً ومواضيع بعيداً عنها، إنها حياة مقابلة، حياة في الحياة. عبده لا يرى فيها فقط فعلاً مهنياً أو جانبياً. إنما فيها في صلب ذاكرته ومعاشه، إنها حياة مقابلة.
عبده أيضاً حين يقدم أشخاصه، لا يغفل، عن أنهم، بدءاً من القارئ مروراً بالباقيين من الثلاثي، أشخاص استثنائيون. الثلاثة غير عاديين، ببداياتهم ومسارهم ونهاياتهم. مع ذلك يختلف الأمر بينهم، إنهم يبدؤون كذلك، لكن جوزف وحده تطابق نهايته الفاجعة بداياته. في حين أن جوسلين تتدرج إلى أن تصير أقل غرابة وأكثر عادية. القارئ أيضاً في نهاية الأمر يبدأ بقصة حب عادية تقريباً، أما الذي يحدث وما يخالف تصريحاته الأولى كلها، فهو أنه يبدأ بأن يصير كاتباً، ويسلم حبيبته الأخيرة مخطوط رواية.
يمكننا الكلام عن موسوعة، بل عن تحقيق طويل، إذا لم يكن أطروحة
يمكننا، مع ذلك أن نفكر في عبده الشاعر والروائي والناقد، ونحن نقرأ الرواية. نتساءل إلى أي قدر تنهل من سيرته. بالتأكيد، القراءات التي شملت تاريخ الرواية، هي قراءات لن تتأتى لأي كان، إنها قراءات عبده نفسه، وعبده فيها طوال الوقت.
إذا كنا تكلمنا عن سيرة، فنحن بالطريقة نفسها يمكننا الكلام عن موسوعة، بل عن تحقيق طويل، إذا لم يكن أطروحة. هنا نجد بالتفصيل الرواياتِ موضوعاتٍ، هكذا نقع، في جملة ما نقع على روايات الغيبوبة والاحتضار، روايات البحر، روايات القراءة، روايات الانتحار، روايات عن وفي الفن التشكيلي، روايات ذائعة لروائيين مجهولين، روايات السير الأدبية والسير الذاتية، روايات الأبطال المستوحدين، الرواية البوليسية… إلخ. قد نلاحظ في غضون الرواية أن روايات العرب بالفرنسية، أمين معلوف والطاهر بن جلون، على لسان جوسلين إكزوتيكية، في نقد واضح لها. كما أن الروائيين العرب لا يظهرون في الرواية إلا بأجيالهم السابقة، نجيب محفوظ، توفيق عواد، يوسف حبشي الأشقر، فؤاد كنعان، طه حسين، محمود تيمور. "القارئ" الذي يقرأ بالفرنسية ويعرف مع ذلك العربية بل يترجم منها، لا يتوقف كثيراً عندهم.
* شاعر وروائي من لبنان
