
عربي
لا يمثّل المنفى بالنسبة إلى الكاتب المصري رؤوف مسعد، الذي رحل أول أمس، مجرد محطة عابرة، بل جوهر تجربته الفكرية والإنسانية. هناك، في أمستردام، عاش ما يقارب ثلاثة عقود كاتباً ومترجماً وناشطاً ثقافياً. في تلك المسافة المادية والرمزية بين الشرق والغرب، تبلورت نبرة كتاباته المتأخرة، حيث لم يعد المنفى مكاناً للنفي فقط، بل أيضاً فضاءً للتفكير والحرية. وقد اعتبر مسعد أن الغربة لم تُنهِ علاقته بوطنه، بل منحت كتابته رؤية أخرى عنه وأعطته مساحة للحرية والتجريب.
من أبرز أعماله التي عكست تجربته في المنفى ووعيه بالاغتراب روايتا "صخب وراء السكون" (1999) و"بيضة النعامة" (1994)، حيث تتجاور الشخصيات الممزّقة بين لغتين وثقافتين، ويغدو الجسد نفسه ساحة صراع بين الانتماء والحرية. في تلك الروايات، بدا الكاتب مشغولاً بمساءلة معنى الهوية والسلطة والعلاقة بين الفرد والجماعة، وهي الأسئلة التي ظلّت تؤرق جيله من مثقفي الستينيات الذين رأوا أحلامهم تتبدّد بين هزيمة 1967 وصعود السلطوية الجديدة.
على مستوى الأسلوب، جمَع مسعد بين جرأة السرد الواقعي ووعي المثقف الماركسي الذي راجع أفكاره في ضوء التجربة. كان يرى أن الكتابة فعل مقاومة ضد السكون، وأن الأدب لا يزدهر إلا في ظل حرية فردية مطلقة. لذلك بقي خارج المؤسسة الثقافية، لا ينتمي إلى تيار ولا يقترب من سلطة. وحتى بعد عوداته المتقطعة إلى القاهرة في التسعينيات، ظل يعيش خارج المكان. وبهذا كان للمنفى أثر إيجابي في تجربته؛ إذ لم يكن من الكتّاب الذين سكنهم الحنين، بل من أولئك الذين حوّلوا المنفى إلى مختبر دائم للتجريب. في ذلك الفضاء البعيد عن المركز، حافظ على صوته المتميز، صوتاً موازياً للثقافة الرسمية، لا يساوم ولا يطلب الاعتراف.
كتَب نصوصاً تتقاطع فيها السيرة الذاتية بالتحليل الاجتماعي
كانت تجربته شاهدة على تحولات مصر والعالم العربي من زمن اليوتوبيا إلى زمن القلق والمنفى. وُلد مسعد في السودان عام 1937 لأبٍ قبطي من أسيوط كان قساً بروتستانتياً، ما جعل طفولته الأولى مشبعة بروح التمرد على السلطة الدينية والفكرية في آنٍ واحد. درس الصحافة في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وهناك بدأت علاقته الأولى بالسياسة عبر انخراطه في الحركة اليسارية المصرية، التي وجد فيها آنذاك أفقاً للتحرّر والعدالة، قبل أن يتحوّل لاحقاً إلى أحد أكثر كتّاب جيله نقداً للأيديولوجيات.
منذ بداياته في الستينيات، كتَب رؤوف مسعد نصوصاً تتقاطع فيها السيرة الذاتية بالتحليل الاجتماعي. كانت تلك الفترة مشحونة بالتوتر بين الحلم الثوري الذي وعدت به الناصرية وقمع الدولة الأمنية، وهو ما دفعه إلى مغادرة مصر عام 1971، ليبدأ رحلة منفى طويلة امتدت إلى العراق ولبنان وهولندا. وبرحيله، تفقد الثقافة العربية واحداً من أكثر الأصوات جرأة واستقلالاً، كاتباً عاش حياته في تقاطع المساحات الحسّاسة بين الدين والسياسة والجسد والمنفى، لكنه لم يتوقف عن مساءلتها جميعاً، وظل، حتى أيامه الأخيرة، يؤمن بأن الحرية تبدأ حين نكفّ عن البحث عن مكان نعود إليه.
