
عربي
ليس تطفّلاً منّي أن أسرد قصّة كتاب لم يكن من تأليفي، الكتاب القيم هو لنصر محمد عارف "في مصادر التراث السياسي الإسلامي... إشكالية التعميم قبل الاستقراء" (هيرندن، 1994)؛ ولكنّني شاركت بعضاً من مشاهده. المشهد الأول لأستاذنا حامد عبد الله ربيع، الذي شكّل في كلّية الاقتصاد والعلوم السياسية ريادةً في حقل التراث السياسي الإسلامي، حين حقّق كتاب شهاب الدين بن أبي الربيع "سلوك المالك في تدبير الممالك"، ففتح الباب واسعاً ليواصل بعض تلامذته الاهتمام بالفكر السياسي الإسلامي ومصادره. وسبق أن أشرت في مقالاتٍ سابقة إلى هذا الاهتمام. ويأتي كتاب عارف في مقدّمة الكتابات المؤثّرة والمهمة في حقل الفكر السياسي الإسلامي، تناول جانباً جوهرياً من مسألة مصادر التراث وتوظيفها.
المشهد الثاني لأستاذنا المرحوم عزّ الدين فودة، الذي عدّته جماعة القانون الدولي أباً لها، وحكّم الكتاب قبيل نشره. وقد أملى عليّ تقرير التحكيم، واقترح عنوانه الفرعي المهم الذي يوضح فكرة الكتاب الأساسية "إشكالية التعميم قبل الاستقراء"، وتعلّمت منه كثيراً من فنون تحكيم الكتب والبحوث، وأدرْنا حواراً بنّاءً حول التراث. وقد صرّح لي آنذاك أنه يدير وحدة تراثية في دار الكتب المصرية، وأنه بصدد تحقيق كتاب ابن جماعة "تحرير الأحكام"، الذي أَعتبره من أهم الكتابات ذات المغازي السياسية في التراث السياسي الإسلامي، وظلّ يردّد على مسامعي منهجية مساءلة التراث مقدّمةً لتفعيله.
المشهد الثالث لأستاذتنا منى أبو الفضل، التي صامت عن الكلام بعد صدمتها من مذابح كانت بحقّ البوسنيين (1992-1995)، ففاضت بكلماتها القيّمة تتحدّث عن الأمّة وطرائق تفكيرها، وعن تراثها الذي يمثّل ذاكرتها الحضارية، وتحدّثت عن العلّامة الفذّ، ومعلّم جيل التراث السياسي الإسلامي، حامد عبد الله ربيع، الذي شقّ طريقاً ليس باليسير، واقتحم العقبة التراثية مجيباً عن سؤال التراث وتقصّي معاني الاستجابة الواعية والرافعة لنهوض الأمّة، فثمّنت، في مقدمتها الماتعة لهذا الكتاب، أطروحته "أمّتي والعالم"، ووصفت صاحبها بأنه مَن أصّل علماً سياسيّاً عربيّاً معاصراً من منظور حضاري مقارن، وأكّدت أنه "إذا أدركنا موقع التراث من عملية تجديد بناء الأمّة، فإننا نستطيع أن ندرك خطورة ما تتعرّض له، حين يتعثّر السبيل في هذا المجال، فلا تفتقد مسالك الوصول إلى هذا الزاد الحيوي وسبل التعامل معه فقط، بل يتحوّل الزاد التراثي إلى عامل من عوامل التشويه والغبش وتداخل الرؤى واختلاط الأمور، ليصبح التراث ذاته في آن واحد أداةً ووسيلةً، وطرفاً في خصومة سجالية متأججة هدفها الكيان الاجتماعي الحضاري للأمّة وجوداً ومصيراً".
للحديث عن التراث الإسلامي ومصادره مداخل عديدة منها إعادة تعريف كل من "النصّ" و "الواقع" على نحو يُخرج الأصول المرجعية لهذا التراث من دائرة حرفية المدوّنات المنطوقة، ومن شكليات المبنى اللفظي
كان المشهد الرابع مع الرئيس البوسني علي عزّت ببيغوفيتش، الذي لازمت فيه مؤلف الكتاب نصر عارف حينما زرناه في محلّ إقامته (عند زيارته القاهرة)، مهدياً إيّاه النسخة الورقية من الكتاب الذي كتب في صدره ما مفاده: "إلى مسلمي البوسنة والهرسك، بقايا طرف من أطراف الأمّة ضعيف، يتحرّك بعد سكوت قلبها باحثاً عن ذاته، منقّباً عن كينونته، متذكّراً هويته... إلى السيد علي عزّت بيغوفيتش؛ رئيس هذا الطرف الذي صار رمزاً لفاعلية أمّة سقطت فاعليتها منذ زمن، وتجاوزت وعيها، وذهلت عن ذاتها، وأهملت تراثها، وذابت في تراث غيرها، وتنازلت عن تاريخها، فحاول بسيفه وقلمه أن يذكّرها بقيمها، ويبعث فيها سالف عزّتها وقديم نخوتها، قبل أن تلحق بها لعنات هذه الأجيال، كما لحقت بها من قبل لعنات أهل الأندلس. قبس من تراث لعلّ في استيحائه عبرة وعظة".
المشهد الخامس، ذلك الاحتفاء بهذا الكتاب، وما توصّل إليه من نتائج فريدة في بابها من الناحية المعرفية والمنهجية، ولا يزال يلقى هذا الاحتفاء في الأوساط العلمية والبحثية، حتى التطاول على الكتاب نفسه بالاقتباس غير المُعلَن أو الموثق، وبلا إسناد إلى صاحبه، يُصَّنف سرقةً علمية.
ولعلّ الإشارات والتنبيهات من أستاذتنا منى أبو الفضل تصلح للختام لسؤال التراث: "إن كسر حلقة الاجترار السلبي، أو ما يمكن تسميته بدورة الاسترجاع الاجتراري، التي من شأنها إعادة إنتاج السلبيات التي استبطنها العقل المسلم قديمه وحديثه، ونقلها بين جيل وجيل، وإن اختلفت السياقات والمسمّيات، لا يتأتى إلا من خلال استنباط المنهاجية المستوعبة للأصول المرجعية الحضارية وتوظيفها في إعادة قراءة جامعة ناقدة تضع الجزئيات في إطار الكليات... ولأصبحنا أكثر قدرة على الاستيعاب والتوظيف لما تقدّمه تلك العلوم بعد تناولها نقداً وتجاوزاً. وبعد ذلك، قد تجاوزنا حالة التلقّي المُستلَب والسالب الذي درجنا على منواله منذ ما يزيد على قرن من تجربة الحداثة في ديارنا، وعندها نكون أهلاً للتعامل الحضاري، ويكون لمبادرتنا الفكرية تمايزها وآثارها ومنها أصول منهجية المساءلة البصيرة".
للحديث عن التراث الإسلامي ومصادره مداخل عديدة منها إعادة تعريف كل من "النصّ" و "الواقع" على نحو يُخرج الأصول المرجعية لهذا التراث من دائرة حرفية المدوّنات المنطوقة، ومن شكليات المبنى اللفظي، ويأخذ في الاعتبار الأبعاد الغيبية المتعلّقة بتنزيل النصّ وتحقّق الواقع، وكذلك التشكّلات المفصلية لواقع عصر التنزيل الذي ارتبط بالتنزيل القرآني وببيان متلقي الوحي، حتى مناقشة تراث الفكر الإسلامي، فالقداسة منحصرة في هذين المصدرين، وبقدر ما تتصل المصادر الأخرى بهما، وتقوم عليهما، تكتسب أهميةً علمية، وشرعية معرفية. وبالرجوع إلى مصادرنا المعرفية، وإلى التراث الفكري الذي تولّد في سياق الاحتكاك بتلك المصادر، يتبيّن لنا أن المساحة بين النصّ والواقع من مقدّمات الدافعية الحضارية، ومن دواعي السعي التدافعي الهادف والبنّاء، إلا أنها ليست بالمساحة المستعصية على اللقاء، بل هي مساحة متحدّية، تجعل من التراث مادّة وموضعاً، لكي تعرف من خلال هذا التراث قابليات أمّة ما للحياة وللخروج والتجدّد.
يقدم التراث الإسلامي للخبرة الإنسانية نماذج كثيرة، شرط أن يُقبل الباحث عليه بمنهج المُستوعِب لا المُستوعَب
وتضيف: "إن تطوير منهاجية ملائمة للتعامل مع مصادر تراثنا هي خير ضمان لتأمين مسار الخطاب المعاصر في هذا المضمار، فلا يقع في مزالق الإفراط والتفريط. إن فتح ملفّ التراث ومراجعة التراث في المخزون الحضاري الإسلامي، قد يفتحان أعيننا، ليس على مفاصل التواصل، فمن الخبرة الإسلامية يمكن أن نقدّم أدلةً كثيرةً على إمكان الجمع بين البعدَين نظرياً وعملياً، ويستطيع التراث الإسلامي أن يقدّم للخبرة الإنسانية من النماذج كثيراً، شرط أن يُقبل الباحث على مجال بحثه في التراث بعد أن يكون قد تكوّن في تخصّصه على النحو الذي يخوّله التعامل المستقلّ مع المنطلقات وحقل المفاهيم في تخصّصه، من منطلق المُستوعِب لا المُستوعَب. والتحرّر من سلطان التخصّص الحديث لا يعني الانغلاق العلمي، فإن موقع الباحث من تخصّصه يكون أقرب إلى المهندس الإنشائي المعماري منه إلى المنفّذ الفنّي. وعند ذلك فقط يستطيع أن يؤمّن لنفسه القدر اللازم من المرونة الفكرية والحراك الذهني على نحو يمكّنه من الانتقال من حقل إلى آخر، لتوظيف مفاهيم التخصّص وخبراته في مبحث التراث، من دون قسر أو تعسف أو اختزال".
وتختم منى أبو الفضل فكرتها المركزية بالقول: "إن البحث الأصيل اليوم فريضة غائبة وهو عادة ما يكون وليد مفارقات أولية يدركها الباحث من واقع معايشة حقل معرفي معين بكيفية خاصة، يمكن أن تؤدّي إلى تحويل المشاهدة العلمية إلى شهادة معرفية، تبدأ بالتساؤل وتنتهي عبر الاستقراء والتحليل، فالاستدلال والترجيح والتصويب والتعديل إلى الإقرار في ما ينبغي أن يكون عليه الأمر في ضوء التوسّل بالممكن لتجاوز الكائن، وهنا تكمن الإضافة الحقيقية للبحث ـ أي كتاب مصادر التراث الإسلامي ـ حيث يضع أيدينا في مقدمته الرصينة على أزمة حقل، ومأزق عقل، ويقودنا في الوجيز المفيد إلى تشخيص المصادر والأسباب إلى معرفة الظواهر والأعراض بعد ربطها بأسبابها، ويضع العقل المسلم ديناً أو ثقافة أمام مسؤولياته الكاملة عن هذا التراث".
