السياسة واللغة
عربي
منذ يومين
مشاركة
لم يعد للسوريين كافة لغة حوار. فما أن يختلف اثنان حتى ترى أنهما لا يجدان في المجال العام، وفي اللغة، وفي أصول الحوار، غير الشتائم أو التحقير لموقف الآخر، ورأيه. تطاول اللغة الشتامة الأعراض أيضاً، والأهل، والمكان، ويبحث كل منهما عن أي طريقة يضع فيها خصمه أسفل السافلين، دون أن يقترب مقدار أنملة من الفكرة التي بدأ الخلاف حولها، أو الوضع السياسي، أو الخيارات الفكرية، أو الحياتية لأي منهما: باعة خضار، وسائقو شاحنات، وراكبو دراجات نارية، وفنانون، وشعراء، وروائيون، وأساتذة جامعات، يتشابهون في استعمالات اللغة إلى حدود المحو.   في مقالته "السياسة واللغة الانكليزية"، قال الروائي جورج أورويل إن انحطاط لغة من اللغات يعود نهائياً إلى أسباب سياسية واقتصادية، وإن اللغة تغدو قبيحة وغير دقيقة لأن أفكارنا سخيفة وغبية، والمفارقة، في تقديره، هي أن الغباء نفسه سوف يؤدي إلى تراخي اللغة، ويسهل للمجموعة سبيل تكوين أفكار سخيفة.    وهكذا بدل أن يكتب المثقف السوري لغة المواطنة، وهي اللغة التي تدعم فكرة السوري، أي أن جميع السوريين هم سوريون وليسوا سنة وعلويين ومسيحيين ودروزاً، فإنه يستخدم في كلامه، ودعواته، (إذ صار عشرات الآلاف من السوريين دعاة بالمعنى الدعوي الحزبي أو الديني) مفردات الطائفية، فيكتب عن تقصير النخب السنية والمسيحية والدرزية والعلوية، أو ينتقد أداءها. وفي هذه اللغة الغبية يزج بالسوريين كافة في طوائفهم، بدل استعادتهم إلى سوريتهم. باتت وسائل الإعلام حكماً في عالم اللغة الأخلاقية والسياسية. وإذا ما رأى المتخاصم أن شخصاً ما يكتب كلاماً منصفاً لجلاء الحقيقة، أينما كان الحق، فإنه يغمض عينيه، ويتجاهل المنشور إذا كان الآخر من الطائفة "الأخرى" كي يمنح نفسه حرية النشر، ويمتنع عن قول كلمة، أو جملة تعاطف، أو تفهم. باتت وسائل الإعلام حكَماً في عالم اللغة الأخلاقية والسياسية غير أن هذا الشكل من الخصومة لا يقتصر على الآخر من الطائفة الأخرى، بل يطاول أولاد "الجماعة"، فابن مدينتك، أو مذهبك، أو طائفتك، لا يقبل إلا أن تردد الأفكار التي تعجبه هو، أو تعجب المجموعة التي ينتمي إليها، وأي خروج عن رأي الجماعة تدفعه لأن يفتك بك، ويعتبر كلامك وموقفك خيانة، أو ذلاً، أو حمرنة، وفي الأحوال الأخرى يمكن أن يتهمك بأنك  بعثي، أو يساري، وهما تهمتان تحت الطلب لكل من هب ودب، وأما التهمة الأكثر خطراً فهي أنك علماني. إذ لم يتعرض مفهوم سياسي يعيش في ظله مئات الملايين من الناس، في أوروبا، أو آسيا، أو الأميركيتين، وينعمون بالحرية الفكرية والسياسية، ويعيش في ظله ملايين من السوريين الذين فرّوا من قمع النظام السابق، للتشويه المتعمد، كالعلماني، من قبل من يعرفون ما هي العلمانية، ومن قبل من تصل إليهم المفردة الوحيدة محطمة ومشغولة بسنارة التعصب والكراهية.     يحرض الوضع السوري اليوم العقل لدراسة أثر الواقع في الفكر، وفي الحوارات السياسية، وأكثر ما يمكن أن يتمعن فيه المرء هو: كيف يتمكن النظام السياسي الحاكم من لي أفكار النخب المفكرة، ودفعها للتخلي عن مبادئها، أو التلاعب بها؟ * روائي من سورية

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية