الصحافيون في غزة يفتشون عن بقية حياة
عربي
منذ 3 أيام
مشاركة
بين أنقاض المدن المهدّمة في قطاع غزة، يعيش عشرات الصحافيين الفلسطينيين بلا منازلهم، بعد أن دمّرت حرب الإبادة الإسرائيلية بيوتهم ومكاتبهم ومعداتهم، تاركةً إياهم عالقين بين مأساة الفقد اليومي وضغوط المهنة التي لا تتوقف. فحتى بعد دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، لا تزال خيام النزوح والملاجئ المؤقتة هي مأواهم الوحيد، فيما تحوّلت ذاكرة بيوتهم إلى رماد، وذكرياتهم إلى عبءٍ يومي يلاحقهم كلما حاولوا العودة إلى حياةٍ عادية لم تعد موجودة. بعد أكثر من عامين على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا يزال عدد من الصحافيين الفلسطينيين يعيشون تفاصيل المعاناة اليومية. خسر هؤلاء منازلهم وذكرياتهم وتفاصيل حياتهم المعيشية، بعدما دمّر الاحتلال بيوتهم ضمن سياسة ممنهجة منذ بداية المقتلة. تتواصل فصول المعاناة التي يمرّ بها الصحافيون إلى جانب أزماتهم المهنية، جراء تدمير مقراتهم الإعلامية ومؤسساتهم الصحافية، ونقص المعدات والأجهزة، واضطرارهم للعيش في الملاجئ والمخيمات والمدارس التي تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الطبيعية. وبفعل هذا الواقع القاسي، حُرم كثير من الصحافيين من العودة إلى مدينة غزة بعد فقدانهم كل ما يمكن أن يرجعوا إليه. فحتى مع صعوبة حياة النزوح وانتظار أنباء التوصل إلى اتفاقات تتيح العودة إلى مناطقهم، حال الدمار الكامل لمنازلهم دون ذلك. تقول المراسلة الصحافية فداء حلس إنها أخذت نفساً عميقاً عندما أُعلن وقف إطلاق النار، "كأنني أتنفس للمرة الأولى منذ عامين". تضيف: "لم أصدق أنني ما زلت على قيد الحياة بعد كل هذا الوجع، وبعد القصف الذي لم يتوقف، والجوع الذي كاد ينهش جسد عائلتي، والخوف الذي سكن قلوبنا ليل نهار". وتتابع حلس حديثها لـ"العربي الجديد": "عامان من الألم والفقد والحرمان، من الركض بين النزوح والبحث عن مأوى، من الانتظار الطويل تحت خيام لا تقي برداً ولا حراً. ومع ذلك، حين ساد الصمت أخيراً، شعرت بأن الحياة ما زالت تنبض فينا، وأننا سننهض من جديد مهما طال الطريق". وتبيّن حلس أنها فقدت بيتها في معسكر جباليا، إذ دُمّر وفُرّغ من كل شيء، ولم يبق منه سوى السقف وبعض الأعمدة. وتضيف: "حاولنا أن نرممه بأيدينا، وأعدنا تأهيل جزء صغير منه لنسكنه من جديد، بقينا فيه شهرين فقط، قبل أن يعود الاحتلال ليُجبرنا على الخروج مرة أخرى، وكأننا نُنتزع من جذورنا كل مرة". وتلفت إلى أنها سكنت شقتها الجديدة عاماً واحداً فقط قبل الحرب، بعد أن قضى زوجها سنوات طويلة في تجهيزها حجراً على حجر لتكون "بيت العمر"، لكنها لم تعد تملك منها سوى الذكرى. هذا ما دفعها إلى عدم العودة إلى شمال القطاع، حيث لا بيت ولا أمان. تعيش حلس اليوم في خيمة صغيرة في منطقة الزوايدة وسط القطاع، تترقّب بدء مراحل الإعمار لتعود إلى غزة وتستكمل حياتها كما كانت، فيما تواصل عملها من داخل مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح، وتحاول التمسك بما تبقّى من الأمل بالعيش في منزلها من جديد. يشاركها الواقع ذاته عشرات الصحافيين الذين نزحوا بعد تدمير منازلهم ويواجهون تحديات مماثلة، إذ فقد كثير منهم معداتهم التي كانت أدوات عملهم الأساسية. تقول الصحافية شيرين خليفة إنها لم تتمكن من العودة إلى مدينة غزة بعد تدمير الاحتلال الإسرائيلي لمنزلها في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2023. وتضيف: "خلال اتفاق وقف إطلاق النار الماضي، بداية العام الحالي، ذهبت على وجه السرعة لتفقّد بيتي، لكني وجدته كومة من الركام". وتوضح خليفة لـ"العربي الجديد" مدى صعوبة تلك اللحظة التي صُدمت فيها بتدمير البيت بما فيه من ذكريات شخصية وعائلية، مشيرة إلى أنها استذكرت حينها كل التقارير التي كتبتها لوكالة نوى الإخبارية عن فقدان المواطنين لمنازلهم، لتعيش أخيراً ما كانت تكتبه عن الآخرين. انعدام الخيارات أمام عائلة خليفة دفعها إلى استئجار مسكن مؤقت في منطقة تل الهوى جنوبي مدينة غزة، رغم صعوبة الحياة فيه وعدم ملاءمته للسكن أو لممارسة الطقوس اليومية. لكنها اضطرت لاحقاً إلى تركه والنزوح مجدداً نحو المحافظات الوسطى، على وقع الانفجارات المتواصلة وأوامر الإخلاء الأخيرة. وتتابع بألم: "بعد دخول وقف إطلاق النار الحالي حيّز التنفيذ، لم نتمكن من العودة إلى مدينة غزة رغم الشوق الكبير، إذ لا بيت ولا مكان يمكننا اللجوء إليه بعد تدمير الاحتلال للمربع السكني والمسكن الذي كنا نستأجره. أواصل عملي في ظروف غاية في القسوة وعدم الاستقرار. أنام في المكان الذي أعمل فيه، بينما يقيم أهلي في خيمة أخرى تنعدم فيها كذلك سبل الحياة الكريمة". ويزيد تدمير البيوت من الضغط النفسي الهائل على الصحافيين، كما هو الحال مع المواطنين، إذ يجد الصحافيون أنفسهم محاصرين بين التحديات الشخصية والضغوط المهنية. هذه الضغوط تشمل الحزن على فقدان منازلهم وأحبائهم، إلى جانب الشعور بالعجز أمام الواقع الراهن. في هذا السياق، يروي الصحافي رامي الشريف أنه، وبعد وقف المقتلة التي استمرت أكثر من 700 يوم، لا يزال محروماً من بيته في جباليا شمال القطاع، والذي دُمّر في اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي، ما اضطره إلى النزوح إلى منزل العائلة الذي دمرته قوات الاحتلال أيضاً، ثم الانتقال إلى الجنوب في رحلة نزوح قاسية. وبعد دخول وقف إطلاق النار الثاني في يناير/ كانون الثاني 2025 حيّز التنفيذ، عاد الشريف ليسكن منزلاً آخر، لكنه تعرّض بدوره للتدمير في مايو/ أيار الماضي، فانتقل إلى شقة في حي النصر، قبل أن تُدمّر هي الأخرى بعد التهديد الأخير بإخلاء مدينة غزة نحو الجنوب. ويقول الشريف لـ"العربي الجديد" إنه لا يفكر بالعودة إلى مدينة غزة حالياً نتيجة هذه الأحداث المتلاحقة، "خاصة بعد تدمير مختلف مقومات الحياة في المدينة التي لطالما حاولت التنقل فيها بحثاً عن الأمن والأمان والاستقرار". ويشير إلى أن كل التحديات والمخاطر التي واجهها منذ اليوم الأول للعدوان كانت برفقة أسرته ووالديه اللذين يعانيان من أمراض مزمنة تفاقمت بسبب الغبار والأتربة الناتجة عن تدمير المنازل، في ظل غياب تام للإمكانات المعيشية والصحية المناسبة. ويربط الشريف إمكانية عودته إلى غزة بتوفير المنازل المتنقلة وفق اتفاق وقف إطلاق النار، إلى جانب تأمين الخدمات التي تتيح الحد الأدنى من الحياة الطبيعية، قائلاً: "نتروّى حتى نتأكد من ثبات وقف إطلاق النار، فقد عانينا مراراً من انهيار الاتفاقات السابقة". وبالإضافة إلى الدمار المادي الذي لحق بمنازلهم، يواجه الصحافيون تحديات مهنية مستمرة، منها انقطاع الإنترنت المتكرر، وصعوبة الوصول إلى الأماكن المدمرة، ونقص الإمدادات اللازمة لتغطية الأحداث، ليجدوا أنفسهم عالقين بين واجبهم المهني وواقعهم الإنساني القاسي. وهذه القساوة يواجهها من بقي على قيد الحياة. إذ منذ بدء حرب الإبادة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، استشهد 255 صحافياً وعاملاً في المجال الإعلامي في قطاع غزة، آخرهم الصحافي صالج الجعفراوي، وفق توثيق المكتب الإعلامي الحكومي ومنظمات فلسطينية محلية. وأُصيب العشرات بجراح متفاوتة، بعضهم ما زال يتلقى العلاج سواء في الداخل أو الخارج. واستخدم الاحتلال الإسرائيلي قتل الصحافيين خلال العدوان سياسة ممنهجة تهدف إلى تكميم الأفواه، ومنع تغطية الحقائق التي تُظهر انتهاكاته الجسيمة للقانون الدولي وحقوق الإنسان، إلى جانب تدمير قدرات الإعلام الفلسطيني، عبر سلسلة من الهجمات المباشرة على مقرات الصحف، والقنوات الفضائية، والمكاتب الإعلامية في مختلف أنحاء القطاع.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية