
عربي
يعاني سكان مدينة غزة نتيجة عدم توفر المياه، ما يحد من قدراتهم على البقاء في مناطقهم المدمرة، فضلاً عن تمكنهم من إعادة إعمارها، ويتزامن ذلك مع تدمير هائل طاول شبكة الصرف الصحي.
كشف توقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عن حجم الدمار الهائل في البنية التحتية، خصوصاً في مدينة غزة التي يعاني سكانها من أزمة مياه خانقة، إذ لا تصل مياه الشرب أو مياه الاستعمال المنزلي إلى نحو 80% من أحياء المدينة نتيجة تدمير آبار البلدية.
وتمنع أزمة المياه عودة الكثير من النازحين إلى أحيائهم، ومن بين هؤلاء الفلسطينية وفاء مراد، النازحة من منطقة "أبراج المخابرات" شمال غربي المدينة إلى منطقة "الثلاثيني" جنوبي المدينة، والتي تفضل البقاء في البيت المستأجر إلى حين توفر المياه بعد تشغيل آبار مياه البلدية الخاصة بمنطقتها. ومثلها يفضل آلاف النازحين الموجودين في جنوبي القطاع البقاء هناك إلى حين توفر المياه بالمدينة، خصوصاً إلى أحياء الشيخ رضوان وتل الهوى والنصر الغربي والشرقي، ومخيم الشاطئ، ومنطقة الرمال.
ويقول مدير عام التخطيط في بلدية غزة، المهندس ماهر سالم، لـ "العربي الجديد"، إن "تركيز الاحتلال على تدمير الخدمات والبنية التحية، بما فيها شبكات المياه والآبار، كان واضحاً خلال العدوان الأخير، خاصة مناطق شمال غرب المدينة، وكان هناك تركيز على بركة الشيخ رضوان، إذ دمر الاحتلال مرافق البركة، خاصة المضخات والخط الناقل من البركة نحو البحر، وهذا يتطلب تدخلاً عاجلاً، فنحن على مشارف موسم الأمطار، بينما يبلغ ارتفاع منسوب المياه العادمة في البركة نحو خمسة أمتار، ويتبقى نحو متر واحد قبل أن تغمر المياه العادمة الشوارع، كما أن خطوط التصريف تعرضت لأضرار، وتحتاج معرفة حجمها إلى تشغيل المضخات".
دمّر الاحتلال 17 بئر مياه بأحياء الشيخ رضوان وتل الهوى والشجاعية، وبلغت شبكات الصرف الصحي المدمرة نحو 200 ألف متر طولي
ويؤكد سالم أن "الاحتلال الإسرائيلي دمر 17 بئر مياه بأحياء الشيخ رضوان وتل الهوى والشجاعية خلال الأسبوعين الماضيين، من بينها 9 آبار في حي الشيخ رضوان وحده، ما أدى إلى انقطاع المياه تماماً، وطواقم البلدية تسابق الزمن لمحاولة تشغيل بعض الآبار لإيصال المياه، ويتم حالياً الاعتماد على الآبار الخاصة (الغواطس) وشاحنات توزيع المياه، وارتفع إجمالي ما دمره الاحتلال في المدينة خلال أشهر الحرب إلى 72 بئراً من أصل 88 بئراً، ما يزيد التحديات أمام البلدية".
وحول الأضرار التي أصابت شبكات المياه والصرف الصحي، يكشف سالم أنه "قبل العدوان الأخير على المدينة، كانت شبكة المياه المدمرة تبلغ 115 كيلو متراً، وخلال العدوان الأخير وصلت الخطوط المدمرة إلى 150 كيلو متراً، فيما كانت شبكات الصرف الصحي المدمرة تبلغ 195 ألف متر طولي، وارتفعت إلى 200 ألف متر، مع تدمير بركة محطة الصرف الصحي في حي الزيتون بشكل شبه كامل، ما أدى إلى تجمع كميات كبيرة من مياه الصرف الصحي في الحي".
تجلس المسنة أم إياد الددا على أحد الأرصفة قرب مفرق واصل بين شارعي اليرموك والصحابة بمدينة غزة، ممسكة بخرطوم مياه تنساب منه المياه ببطء، محاولة ملء دلاء وغالونات مياه صغيرة، وتجاوز واحدة من أقسى الأزمات التي يعيشها أهالي المدينة منذ انسحاب قوات جيش الاحتلال، حيث تخنق أزمة المياه المدينة نتيجة التدمير واسع النطاق للبنية التحتية.
بعد وقت من التعبئة تحت أشعة الشمس، ينقل أحفادها الدلاء الممتلئة إلى خزان أكبر، محاولين توفير احتياجهم اليومي، وتستغرق هذه العملية أكثر من ساعتين يومياً. تقول الجدة الفلسطينية لـ "العربي الجديد": "هذا الحال الصعب أوصلتنا إليه الحرب، وقد استأجرنا مكاناً يؤوينا لأننا لا نستطيع حمل الدلاء إلى شقتنا في الطابق السابع، والمياه كما ترى شحيحة، ونحن بحاجة إليها للغسل والتنظيف. أجلس من الصباح هنا، وبالكاد استطعنا ملئ بعض الدلاء، والجيران يصطفون في طابور، والجميع يريد التعبئة أيضاً، ونأمل أن تتحسن الأمور في قادم الأيام".
تعيش الددا مع أسر أربعة من أبنائها، وقبل القدوم إلى هذه المنطقة، كانت تعيش في إحدى العمارات السكنية بشارع اليرموك، وخلال التوغل الإسرائيلي الأخير، تعرضت البناية لتدمير جزئي، وحينها كان الأبناء ينقلون الدلاء إلى الطابق السابع، بعد تعبئتها من مناطق بعيدة.
بدوره، يقوم إبراهيم أبو رحمة وأبناء أخوته، بتعبئة دلاء صغيرة ثم رفعها بواسطة حبال إلى خزنات المياه على سطح منزلهم المكون من أربعة طبقات، في عملية شاقة تضاف إلى تعب انتظار ملء الدلاء. يقول لـ "العربي الجديد": "بعد الاجتياح البري الأخير دمر الاحتلال البنية التحتية، وكل المربعات السكنية في محيطنا تعرضت للتدمير، ودمرت شبكات المياه والصرف الصحي. معاناتنا كبيرة، إذ نقضي معظم اليوم في تعبئة المياه في الدلاء ورفعها إلى السطح، وبالكاد نستطيع ملء ربع الخزان فوق سطح المنزل رغم وجود عشرات الأفراد في البناية".
ويشير أبو رحمة إلى أن "المياه تتوفر مرة كل ثلاثة أيام، وأحياناً تطول المدة، ما يخلق أزمة صعبة للأهالي الموجودين في المدينة، وتزاد الصعوبات مع استمرار تدفق العائدين إلى المدينة من الجنوب، ما يزيد الطلب على المياه، ويحتم الإسراع بالعمل على إصلاح الآبار وترميمها لإعادة الحياة إلى المدينة. في فترات الانقطاع، نقوم بشراء المياه الحلوة لاستعمالها منزلياً. الكل هنا يعاني، وننتظر وقتاً طويلا لملء الخزانات. قبل التوغل اإسرائيلي الأخير كانت المياه تأتي ثلاثة أيام في الأسبوع، وكنا نستطيع الحصول على احتياجاتنا منها".
في شارع آخر، قام الفلسطيني أحمد النملة بحفر حفرة أمام خط المياه، حتى يصبح الدلو بمستوى منخفض عن الخط، كي يتمكن من تعبئة المياه التي تنساب بوتيرة بطيئة، ومع كل دلو يقوم بتعبئته يتشارك أخوته في رفعه إلى سطح المنزل.
عاد أحمد قبل يومين من رحلة نزوح شاقة إلى جنوبي القطاع، ليصطدم بواقع صعب وأزمة مياه تخنق المدينة، ويقول لـ "العربي الجديد": "عدنا فوجدنا المدينة مدمرة تماماً، وتسيير أمور الحياة اليومية صعب، والآن نعاني لتوفير المياه. نعيش في تعب وشقاء غير مسبوق منذ عامين، شقاء لا تستطيع الجبال تحمله".
ولا تختلف أزمة المياه الصالحة للشرب عن أزمة مياه الاستخدام المنزلي، خاصة بعد نقل الكثير من محطات التحلية معداتها إلى جنوب القطاع، ما سيأخذ وقتاً لإعادتها وإعادة تشغيلها، إذ يعتمد الأهالي حاليا على شاحنات توزيع مياه الشرب، وبمجرد قدوم شاحنات إلى أي منطقة يتدافع الأهالي للتعبئة.
كان الفرح يرتسم على ملامح الطفلين ملك السودة ويوسف السوسي بعدما استطاعا ملئ قربتي مياه، عادا بهما إلى عائلتيهما، ويقول يوسف لـ "العربي الجديد": "أزمة مياه الشرب صعبة، ومرت أيام علينا من دون توفر الكميات الكافية من مياه الشرب".
من منطقة "المخابرات"، يقول الفلسطيني مراد لـ "العربي الجديد": "يسير الناس لعدة كيلو مترات لتعبئة مياه الشرب، فالاحتلال قام بتجريف الطرق، وتدمير البنية التحتية خلال الحرب، وزاد التجريف خلال الفترة الأخيرة، حتى أصبحت الرمال ناعمة، وتغرق فيها أقدامنا أثناء المشي، خاصة عند حمل غالونات المياه أو الأغراض. المنطقة كلها مدمرة، ومعظم العمارات والبيوت تعرضت إلى هدم كلي، وبسبب صعوبة الحصول على المياه يؤجل كثير من السكان عودتهم إليها".
ولا يختلف الحال في مخيم الشاطئ، فوضع المياه لا يقل صعوبة عن باقي مناطق مدينة غزة. يضطر محمد حسن إلى الذهاب لأماكن بعيدة عن منزله للاصطفاف في طوابير الانتظار أمام آبار المياه، أو انتظار شاحنات مياه الشرب التي يتم توفيرها من قبل لجان الطوارئ، ويقول لـ "العربي الجديد": "أحيانا نعود فارغي الأيدي لعدم كفاية المياه للجميع".
ويضيف حسن: "أوضاع البنية التحتية في المخيم صعبة، خاصة في توفير المياه، سواء مياه الشرب أو مياه الاستخدام اليومي، والتي نحصل عليها بصعوبة بالغة نظراً لتدمير الاحتلال معظم آبار المياه، وتلف المضخات بسبب القصف، وما تم إصلاحه وتشغيله يحتاج إلى توفير السولار، وهو شحيح جداً، وهدم المربعات السكنية وتدمير منظومات الطاقة يعيق جهود إعادة التشغيل".
الواقع نفسه يعيشه سامي الترامسي الذي يسكن في حي الشيخ رضوان، إذ يضطر إلى السير لمسافات بعيدة من أجل الحصول على المياه، فضلاُ عن وجود أزمة صرف صحي، بسبب امتلاء آبار الصرف بالركام والحجارة، ما يهدد بطفح المياه العادمة خلال الفترة القادمة.
