
عربي
تم توقيع اتفاق وقف الحرب في غزة في مدينة شرم الشيخ بالقاهرة، برعاية أميركية وحضور عدة دول عربية وإسلامية وأوروبية. لكنّ عملية إعادة الإعمار هي أهم ما ينتظره الفلسطينيون في غزة، حيث نال الدمار كل شيء، البشر والحجر، فضلًا عن متطلبات الحياة اليومية التي لا غنى لسكان غزة عنها، فعلى مدار عامين دمرت إسرائيل البنية الأساسية وقتلت الآلاف من سكان غزة.
والحديث عن إعادة إعمار غزة يتضمن ضروريات عدة، منها على الأقل عودتها لما كانت عليه قبل حرب الإبادة الإسرائيلية، فحديث البعض يذهب إلى ضرورة عودة المطار والميناء، ليكون التواصل بغزة بعيداً عن الوصاية الإسرائيلية.
ضرورات لا بد منها
أشارت وسائل الإعلام منذ الإعلان عن التوصل لاتفاق لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة إلى محاور مختلفة، منها ما يتعلق بإدارة القطاع بعد وقف الحرب، وسلاح المقاومة، ودور السلطة الفلسطينية، أو وجود قوة أمنية غربية أو أجنبية على أراضي غزة.
إلا أن واقع حياة أهل غزة لا يحتمل هذا الترف من الحوار والنقاش، فهناك أناس يموتون كل ساعة بسبب نقص متطلبات الرعاية الطبية، وغياب المياه الصالحة للشرب، فضلاً عن الصرف الصحي الآمن، ناهيك عن البيوت المهدمة، وتدمير المدارس والجامعات والمستشفيات.
فثمة تقديرات فلسطينية وأخرى لمنظمات أممية تشير إلى وجود 67 ألف شهيد، ثلثهم في أعمار أقل من 18 عاماً، وهناك 121.9 ألف مصاب. فكم يتيماً خلّف هؤلاء الشهداء؟ وكم أسرة فقدت دخلها بعد إصابة عائلها، أو وجود مصابين بين أفرادها؟ كما تم تدمير 193 ألف مبنى سكني، ولحق بأبنية المدارس والجامعات دمار كبير، وقدرت نسبة المباني المدمرة بـ90% مما هو موجود في غزة، وخرجت نسبة كبيرة من المستشفيات عن الخدمة، فلم يبقَ من إجمالي 38 مستشفى سوى 14 مستشفى تعمل بشكل جزئي، وهناك 514 ألف شخص يعانون من الجوع الحاد.
ويفرض الواقع المعيشي الصعب لأهل غزة البدء على الفور في توفير متطلبات أساسية لسكان غزة المضارين من الحرب الإسرائيلية، فالناس بلا مأوى، ويحتاجون على وجه السرعة إلى الخيام لمن تهدمت بيوتهم، والطعام لمن يعانون من الجوع وعدم القدرة على شراء الطعام. وهنا لا بد من دور للمنظمات الدولية والدول العربية والإسلامية للضغط من أجل دخول كافة المساعدات المحجوزة على المعابر، وبخاصة معبر رفح. ولا يغيب عن المعنيين بأمر غزة وإعادة إعمارها توفير المستلزمات الخاصة بالرعاية الطبية.
فلا الخيام ولا الطعام ولا الدواء تحتاج إلى مفاوضات، فهي لا يمكن الاستغناء عنها، وكل يوم يمر دون مدّ سكان غزة بهذه الاحتياجات الضرورية يفاقم أزمتهم.
خطورة التوظيف السياسي
غير مرة تعرضت غزة للاعتداءات من الكيان الصهيوني، وكانت ردة الفعل الدولية والعربية لا تتناسب مع مأساة أهل غزة، حيث يشترط البعض أن تتم الإطاحة بمؤسسات حماس التي تدير غزة، أو أن تعود السلطة الفلسطينية إلى إدارة غزة، أو أن تتم عملية إعادة الإعمار بعيداً عن سلطة حماس، وأن تكون عبر السلطة الفلسطينية.
بل نشرت وسائل الإعلام أنه ضمن مبادرة ترامب، التي تم بموجبها وقف الحرب الإسرائيلية على غزة، إنشاء مؤسسة من خارج أبناء فلسطين بالكلية لتقوم بالتخطيط والتنفيذ والإشراف على إعادة إعمار غزة. وأخيراً عرضت بعض الدول أن تقوم بنفسها بتنفيذ مشروعات داخل غزة في إطار إعادة الإعمار، حتى أنّ البعض خصص بعض المشروعات، مثل الصرف الصحي أو العمل في قطاعات بعينها.
وتغيب عن هؤلاء أولى متطلبات التخطيط، وهي مشاركة أهل المكان أنفسهم، لتعبر عملية إعادة الإعمار عن متطلبات السكان وليس الممولين أو المخططين، فغزة جزء من أراضي فلسطين وليست مشروعاً استثمارياً يتم الترويج له لغير أبناء غزة. فالخطوة الصحيحة في هذا المضمار أن يكون هناك تنسيق كبير بين مؤسسات إدارة غزة الحالية، من أجل تسهيل عملية إعادة الإعمار عبر مراحلها المختلفة، لتوفير البيانات وإتاحة مناخ من الأمن يسهل عملية التنفيذ ويقلل تكاليفها المتوقعة.
يقدّر البعض كلفة إعادة الإعمار في غزة خلال المرحلة القادمة بنحو 60 مليار دولار، وقد نشرت وسائل الإعلام أخيراً عن عزم مصر وألمانيا على تنظيم مؤتمر مانحين لأجل إعادة إعمار غزة. وإن كان هذا هو توجه الدول، فمن شأن منظمات المجتمع المدني أن تكون لديها مساهمة يمكن أن تساعد في إعادة الإعمار، ويحتاج الأمر إلى نوع من التنسيق، وبخاصة أن بعض الجمعيات الأهلية الفلسطينية خارج غزة عرضت بالفعل مخططاً كاملاً - قبل التوصل لاتفاق وقف الحرب في غزة، وأثناء مؤتمر دولي نُظم في إسطنبول من أجل إعادة الإعمار - لكافة مراحل إعادة الإعمار، من حيث الكلفة وفترات التنفيذ.
استدعاء المنظمات الإغاثية
لا شك أن عودة البنى التحتية إلى وضعها الطبيعي في غزة سوف يستغرق من الوقت ثلاث سنوات على الأقل، كما أن عودة النشاط الاقتصادي في غزة تحتاج إلى إعادة الإعمار بشكل كبير، حتى تتاح أجور ورواتب للعاطلين الذين بلغت نسبتهم ما يزيد عن 70% بسبب الحرب. وبالتالي فحضور المنظمات الإغاثية مهم وضروري، وبخاصة المنظمات الدولية، فمجرد عمل هذه المنظمات سوف يتيح أجوراً ومرتبات للعاملين بها، فضلاً عن تشغيل العديد من الخدمات بشكل غير مباشر، مثل النقل وإيجار الأماكن التي ستنطلق منها هذه المنظمات للعمل. ومن العوامل التي ستساعد هذه المنظمات على العمل بشكل سريع لتلبية بعض احتياجات أهل غزة، أن لديها رصيداً من المساعدات والتبرعات يمكن الدفع بها لغزة إذا ما فتحت المعابر بشكل جيد يسمح بتدفق تلك المساعدات.
كما أن هناك رأياً عاماً عالمياً يمكن أن تستفيد منه هذه المنظمات في جمع التبرعات لأهالي غزة، وتسويق مشروعاتهم التي تخدم المضارين في غزة. ولعلّ أسرع المشروعات التي يمكن أن تعمل فيها المنظمات الأهلية غير الحكومية في غزة هو توفير الرعاية الاجتماعية لأسر الشهداء والمصابين وكفالة الأيتام، وإن كان الأمر يتطلب درجة عالية من التنسيق بين مختلف الجمعيات العاملة في هذا المجال. كما سيكون واجب الإدارة الحالية في غزة توفير قاعدة بيانات عن أسر الشهداء والمصابين، وحالة الفقر الشديد التي يعجز معها أصحابها عن كسب قوتهم.
اختبار عالمي
تفاعل العالم خلال العامين الماضيين على مستوى الشعوب والحكومات مع مأساة غزة عبر التظاهرات وغيرها من الأنشطة، التي أدانت الممارسات الإسرائيلية في حربها على غزة. وجاء الوقت الذي يمثل المستوى الثاني من التفاعل من قبل الحكومات والشعوب مع أهالي غزة من خلال دعم ومساندة عملية إعادة الإعمار.
ولن يكون الأمر قاصراً على مجرد دعم جهود الإغاثة وإعادة الإعمار، بل الضغط على إسرائيل لعدم إعاقة عملية الإغاثة العاجلة وإعادة الإعمار، أو الالتفاف على اتفاق وقف الحرب والعودة مرة أخرى للحرب. فهل ستكون الدول والشعوب على وعدها لدعم غزة خلال المرحلة المقبلة في الإغاثة وإعادة الإعمار؟ هذا ما تثبته الأيام المقبلة أو تنفيه.
