
عربي
قصةُ سورية اليوم تشبه قصة شخص ورث قصراً كبيراً عن عم بعيد، فاحتفل أياماً قبل أن يدخل القصر ويعرف الحقيقة. في الظاهر، قد يبدو الأمر مكسباً ضخماً، لكنه ما إن يبدأ العيش فيه حتى يكتشف أن الأساسات متصدعة، والأسقف مهددة، والجدران متشققة، والأسلاك الكهربائية على وشك الذوبان وإحراق ما حولها، وتحت الأرض تسري مياه آسنة منذ سنوات. سرعان ما يتبيّن أن هذه “التركة” ليست هدية مجانية، بل عبء ثقيل يتطلب وقتاً ومالاً وجهداً هائلاً لإصلاحه، وأن ما ورثه ليس إلا قشرة براقة تخفي خراباً عميقاً.
بهذا المعنى، يمكن فهم ما ورثته السلطة الجديدة في سورية بعد سقوط النظام قبل أقل من عام. لقد تسلّمت حكم بلد منهك، ليس فيه ما يُدار بسهولة أو يُصلح بقرار. وفي الوقت الذي يتسرع فيه بعضهم إلى تحميلها كامل المسؤولية عمّا يجري اليوم من أزمات واضطرابات، يغفلون عن حقيقة أساسية: أن ما نعيشه هو نتيجة مباشرة لعقود من الاستبداد وفساد الحكم، ولسنوات الحرب التي دمّرت كل مقومات الدولة والمجتمع.
لم تكن سورية دولة طبيعية حتى نطالب بحلول طبيعية. لقد خرجت من 55 عاماً من الحكم الشمولي القائم على تدمير المؤسسات وتفكيك المجتمع، ومن حرب طاحنة امتدت 13 عاماً، مزّقت البنية الوطنية وخلّفت إرثاً من العنف والدمار والفرقة. ورثت السلطة الجديدة هذا كله دفعة واحدة، من دون أدوات حقيقية أو مؤسّسات فاعلة. ومع ذلك، لا يعفيها هذا من مسؤولية القرارات التي اتخذتها، أو من الأخطاء التي ارتكبتها، بل يزيد من أهمية أن تكون قراراتها مدروسة وشاملة وغير إقصائية.
أحد أبرز الإخفاقات التي وقعت فيها السلطة الجديدة كان نهج الإقصاء، إذ اعتمدت منذ البداية على دائرة ضيقة من أتباعها، متجاهلة طيفاً واسعاً من الكفاءات والخبرات الوطنية. هذا النهج عمّق الفجوة، وساهم في عزل السلطة عن شرائح واسعة من السوريين.
إضافة إلى ذلك، فشلت في تقديم رسائل طمأنة جدّية لبقية المكونات المجتمعية، ما جعل أغلب السوريين، بعضهم وليس كلهم من الأقليات، يعيشون في ظل مشاعر القلق والخوف من المستقبل. تعزّزت هذه المخاوف بسبب الخلفية الإسلامية المتشدّدة للسلطة، والتي تخوّف كثيرون من تأثيرها على الحريات، وفرص العمل والوظائف، والتعدّدية، وشكل الدولة القادمة. لم تكن تلك المخاوف مجرد هواجس، فجاءت أحداث الساحل والسويداء لتزيد من الريبة وتضع علامات استفهام كبيرة حول قدرة السلطة على التعامل المتوازن والعادل مع مختلف المناطق والمكونات.
وعلى المستوى السياسي أيضاً، لا تزال التوترات قائمة مع قوى مثل قوات سوريا الديمقراطية، من دون وجود أفق حقيقي، منطقة شمال شرق سورية، حيث يتركز المكون الكردي السوري بكثافة، قد تكون مثالاً يبعث الأمل فيما لو نجح الحوار بين "قسد" ودمشق، وقد تكون قنبلة قابلة للانفجار في أي لحظة فيما لو فشل.
من هنا، لا يمكن القول إن السلطة الحالية مسؤولة عن نشوء الأزمة، لكنها مسؤولة، بكل تأكيد، عن طريقة إدارتها اليوم. وكلّما تأخّرت في الاعتراف بأخطائها، وتوسيع قاعدة تمثيلها، وتقديم خطابٍ واضحٍ وشفافٍ يُطمئن جميع السوريين، زادت الشكوك، وابتعدت البلاد عن إمكان الخروج من النفق.
في المحصلة، لا يكفي أن ترث "البيت" لكي تعمّره. بل لا بد من أن تدرك عمق التصدّع، وتملك الشجاعة لسماع الآخرين، والمرونة لضمّهم، والصدق في الاعتراف بأن الإصلاح لا يأتي من الأعلى فقط، بل من التفاعل العميق مع الناس وتطلعاتهم. فالماضي، وإن سقط شكلياً، لا يزال حاضراً بكل ثقله… والمستقبل لن يُبنى بنفيه، بل بمواجهته بجرأة ومسؤولية.
