
عربي
في صباح الأحد 12 أكتوبر/تشرين الأول، وصل الزوّار إلى المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي وحديقة الحيوان الوطنية على الناشونال مول فوجدوا الأبواب موصدة، واللافتات تعلن التوقف عن استقبال الزائرين. على منصة إكس، كتبت مؤسسة "سميثسونيان" (مجمع متاحف وبحوث، واشنطن) "بسبب الإغلاق الحكومي، ستغلق متاحف سميثسونيان مؤقتاً ابتداءً من يوم الأحد، بالإضافة إلى مراكز الأبحاث وحديقة الحيوانات الوطنية.
"سنحدّث حالة تشغيلنا فور حل الوضع، ولا نعتزم تحديث حساباتنا على مواقع التواصل الاجتماعي إلا لإبلاغكم بأي تغييرات في حالة تشغيلنا"، حسب المؤسسة. حتى "كاميرات الباندا" أُطفئت، وبقيت الحيوانات تتلقى العناية خلف أبواب مغلقة. هذه ليست لقطة سياحية عابرة، بل صورة مكثّفة لاقتصاد يتعثّر، وخدمات عامة تتبخر ساعة بعد ساعة.
توقيف وفصل.. ولا للرواتب
في خلفية المشهد، تتغير حياة مئات الآلاف من الموظفين الفيدراليين بعبارة واحدة "توقيف مؤقت بلا أجر". وبحسب إدارة شؤون الموظفين الأميركيين (هيئة الموارد البشرية الفيدرالية)، فإن التوقيف المؤقت هو وضع الموظف بدون عمل أو راتب بسبب نقص العمل أو الأموال، أو لأسباب أخرى غير تأديبية، ويفرض عند انقطاع الاعتمادات، ويحتفظ فيه الموظف بوظيفته وحقوقه الأساسية إلى حين عودة التمويل، بينما الفصل أو التقليص القسري هو تخفيض لعدد الموظفين، وقد تعامل حالات توقيف تتجاوز 30 يوماً باعتبارها "تقليصاً قسرياً". هذا التفريق ليس لغوياً فحسب، بل يرسم حدود الأمن المهني لعائلات بأكملها.
مئات التسريحات
على الأرض، لا يقتصر الأثر على الإجازات القسرية. فالبيت الأبيض بدأ موجة فصلٍ فعلية، عبر إخطارات "الفصل" شملت وزارات حساسة، ونقلت "رويترز" يوم الجمعة 10 أكتوبر/تشرين الأول، عن متحدثين من البيت الأبيض، أن عمليات تسريح العمال مست عدة وزارات وهيئات، وفي اليوم ذاته فصّلت شبكة الأخبار الفيدرالية في الأعداد، ونقلت عن محامي وزارة العدل الذي يمثل إدارة ترامب أن الوكالات أرسلت إشعارات التسريح لـ315 موظفاً في وزارة التجارة و466 موظفاً في قسم التعليم، و187 موظفاً في وزارة الطاقة، وما بين 1100 إلى 1200 موظف تقريباً في وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، وما يقرب 442 موظفاً في وزارة الإسكان والتنمية الحضرية وحوالي 176 موظفاً في وزارة الأمن الداخلي، وحوالي 1446 موظفاً في وزارة الخزانة. وفي المقابل، رفعت النقابات دعاوى عاجلة لوقف عمليات الفصل أثناء الإغلاق. وبنبرة يعلوها الغضب أعاد حساب الاتحاد الأميركي لموظفي الحكومة (نقابة عمالة أميركية تمثل أكثر من 750 ألف موظف في الحكومة الفيدرالية) نقل تغريدة "لن نسمح باستخدامنا بيادق سياسية، أعيدوا فتح الحكومة، وادفعوا المستحقات".
التهديد بالشارع
وعلى موقعه الرسمي أعلن الاتحاد الأميركي لموظفي الحكومة عن انضمامه إلى احتجاجات "لا للملوك" ضد تصرفات الإدارة المزمع تنظيمها يوم السبت 18 أكتوبر/تشرين الأول، مشيراً إلى أن ملايين الأميركيين المحبطين من "سياسات وإجراءات إدارة ترامب الاستبدادية سيخرجون إلى الشوارع في احتجاج حاشد، يهدف إلى تكرار احتجاج لا للملوك الناجح هذا الصيف". ووصف الإغلاق الحكومي باستيلاء "استبدادي آخر على السلطة من قبل هذه الإدارة، التي هددت بتسريح أعداد كبيرة من العمال الفيدراليين المفصولين مؤقتاً كجزء من سعيها المستمر لإلغاء البرامج والخدمات الفيدرالية التي تجدها الإدارة غير مقبولة".
ومن المزمع أن تشنّ حركات احتجاجية في أكثر من 1650 موقعاً جرى التخطيط لها في جميع الولايات الخمسين ومنطقة كولومبيا، وعلى المستوى الدولي. وقال الاتحاد إن يوم "لا للملوك" هو جهد منسق في جميع أنحاء البلاد، ويكمل يوم العمل السابق للائتلاف في 14 يونيو/حزيران، والذي "جمع أكثر من خمسة ملايين شخص في 50 ولاية في أكبر احتجاجٍ ليوم واحد حتى الآن ضد هجمات الرئيس ترامب الاستبدادية".
خسائر الإغلاق
الخسائر الاقتصادية تتدحرج ككرة ثلج. فبحسب "إي واي بارثينون" (ذراع استشارات اقتصادية لشركة الخدمات المهنية إرنست ويونغ بلندن) في تقرير بتاريخ 25 سبتمبر/أيلول 2025، فإن إغلاقاً لمدة أسبوع واحد سيخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي الأميركي بمقدار 0.1 نقطة مئوية، مما يترجم إلى خسارة أسبوعية قدرها 7 مليارات دولار للاقتصاد مع إمكانية تعويضٍ جزئي بعد إعادة الفتح، بينما نقلت صحيفة بوليتيكو، أول من أمس، مذكرة تحذيرية صادرة عن مجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض، تشير إلى أن الإغلاق المطول قد يؤدي إلى عواقب اقتصادية وخيمة، وأن الولايات المتحدة قد تخسر 15 مليار دولار من ناتجها المحلي الإجمالي أسبوعياً، مع استمرار الإغلاق لمدة شهر، مما سيؤدي إلى زيادة عدد العاطلين عن العمل بمقدار 43 ألف شخص. ولا يشمل هذا الضرر 1.9 مليون موظف مدني فيدرالي معطلين مؤقتاً أو يعملون بدون أجر، ويعيش 80% منهم في منطقة واشنطن. في وقت تذكر فيه تجربة 2018 - 2019 أن الخسائر الإجمالية بلغت نحو 11 مليار دولار، وفق بيانات مكتب الميزانية في الكونغرس.
والدائرة لا تزال تتسع، ففي سماء المطارات، يتردد الصدى بسرعة أكبر من البيانات الاقتصادية، أكثر من 13 ألف مراقب جوي ونحو 50 ألف موظف في إدارة أمن النقل (وكالة تابعة لوزارة الأمن الداخلي الأميركية ولديها سلطة على أمن المسافرين في الولايات المتحدة) يواصلون العمل من دون أجر، بينما تتوالى التحذيرات من وزارة النقل بشأن "انقطاعات وتأخيرات". وعلى منصة إكس، انتشرت شهادات لموظفين يصفون ضغطاً نفسياً ومالياً متصاعداً. ورغم ذلك شدّد وزير النقل شون دافي في ظهوره على قناة فوكس بيزنس، يوم الخميس الماضي، أنه لن يتسامح مع الإجازات المرضية الكثيرة خلال فترة الإغلاق، لأن كثرة الغيابات تتسبب في اضطرابات كبيرة في الحركة الجوية. وقال "إذا لم يكن بعض موظفينا متفانين كما نحتاج، فسنسّرحهم".
وثمة بعد آخر يمسّ ثقة المستهلك مباشرة، وهو تأجيل نشر البيانات الرسمية، فبحسب مكتب إحصاءات العمل (وكالة رئيسية تتبع وزارة العمل تتقصى الحقائق للحكومة في مجال واسع من اقتصاديات العمل)، أُعيدت برمجة تقرير مؤشر أسعار المستهلك لشهر سبتمبر/أيلول إلى 24 أكتوبر/تشرين الأول خصيصى لتمكين الضمان الاجتماعي من احتساب زيادة كلفة المعيشة في موعدها، فيما تبقى باقي الإصدارات معلّقة حتى عودة الخدمات. هذا التأجيل يعني أن المستثمرين وصنّاع السياسة يسيرون "بأضواء خافتة" في لحظة تتطلب وضوحاً.
ومع اقتراب الإغلاق من إنهاء أسبوعه الثاني، تتصاعد النبرة السياسية. إذ حذّر أمس، نائب الرئيس جيه دي فانس من "اقتطاعات أعمق" إذا طال التعطيل، وهو ما يزيد من حالة عدم اليقين التي يواجهها مئات الآلاف الذين جرى تسريحهم بالفعل، في المقابل قال أول من أمس السيناتور الديمقراطي، مارك كيلي، في برنامج "Meet the Press" على قناة "NBC": "نحتاج إلى مفاوضات جادة، ونحتاج إلى حل وتصحيح هذا الوضع من أجل الشعب الأمريكي. فبالنسبة للكثيرين، تتجه الرعاية الصحية الخاصة بهم نحو الانهيار، وإذا لم نعالج هذا الوضع، فسوف ينهار النظام تماماً، وسيصوّت البعض دون نتيجة مؤكدة".
الأرقام تقول إن الكلفة تتضاعف كل أسبوع، والقانون يقول إن الأجر المتأخر حق للمحالين مؤقتاً، والهاشتاغات تقول إن الناس سئموا لعبة الكراسي. لكن ما لا تقوله الشاشات بوضوح: إن الثقة في البيانات، وفي الطيران، وفي المؤسسات لا تُستعاد بقرار واحد، بل تُبنى بإنهاء الإغلاق فقط.
