
عربي
تتصاعد مؤشرات التوتر الاجتماعي في المغرب، مع اتساع الفوارق الطبقية وتراجع قدرة الطبقة الوسطى على الصمود أمام موجات الغلاء المتتالية. فبين تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع نسب البطالة وتدهور الخدمات العمومية، يبرز جيل جديد من الشباب، يعرف بـ"جيل زد 212"، يرفع صوته مطالباً بالعدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة. وتأتي احتجاجات حركة "جيل زد" التي يشهدها المغرب في سياق تفاقم الفوارق الاجتماعية، خاصة بعد الأزمة الصحية والتضخم والجفاف، حيث جرى محو الجهود التي بذلت بهدف تقليص تلك الفوارق، ما قد يفرض تبني سياسات عمومية لإعادة التوزيع موجهة إلى الفئات التي تعاني تراجع مستوى معيشتها.
توزيع عادل للثروة
ويذهب الباحث حميد مصباحي إلى أن "جيل زد" الذي احتج على مدى الأيام العشرة الأخيرة، يستحضر الفوارق بقوة عبر ميله إلى التشديد على العدالة الاجتماعية، حيث يطالب بالانتقال الفوري إلى تنمية تفضي إلى التوزيع العادل للثروة. ويؤكد في تصريح لـ"العربي الجديد" أن "جيل زد" أدرك أن تحقيق مطالبه الحيوية، التي تتمثل في فرص العمل والتعليم والصحة، يستدعي إعادة الاعتبار للخدمة العمومية التي يفترض أن تؤمنها الدولة بعيداً عن منطق السوق الذي يحكم القطاع الخاص، والذي يساهم في تأجيج الفوارق بفعل الحرص على توسيع هامش الأرباح.
ودأب مراقبون على التحذير في الأعوام الأخيرة من انزلاق مغاربة إلى دائرة الفقر تحت تأثير الأزمة الصحية وارتفاع الأسعار والجفاف في الأعوام الأخيرة، إذ بالإضافة إلى تأثيرات هشاشة النمو الاقتصادي، الذي لا يخلق ما يكفي من فرص العمل، تتسع دائرة الفوارق في ظل ضعف عملية إعادة التوزيع. وتستحضر مؤسسات بحثية ومراقبون تأثيرات ضعف النمو الاقتصادي في المغرب، الذي لم يتجاوز 3 % في الأعوام الأخيرة، وذلك في الوقت الذي تراهن فيه المملكة على 6 % بهدف معالجة مشكلة البطالة التي وصلت إلى 13.3 % في العام الماضي. ويجري التعبير في الأعوام الأخيرة عن الخوف من اتساع دائرة الفقر في المغرب، حيث يرى خبراء أن الطبقة الوسطى مرشحة للانزلاق إليها، في ظل ارتفاع تكاليف التعليم الخاص والصحة والسكن والنقل. كما تعتبر هذه الطبقة الأكثر تضرراً من تحرير الأسعار، خاصة إذا ما عمدت الحكومة إلى رفع الدعم عن الغاز.
وسبق لتقرير النموذج التنموي الجديد، الذي جاء نتيجة نقاش واسع بالمغرب، أن لاحظ أن الطبقة الوسطى تواجه تراجعاً ملحوظاً في قدرتها الشرائية بسبب التكلفة العالية لخدمات التربية والصحة المقدمة من القطاع الخاص بديلاً لضعف جودة العرض العمومي لتلك الخدمات. وهي وضعية لا تسلم منها فئات أخرى مثل النساء والشباب. وكانت لجنة خاصة قد أشرفت منذ عام 2019 على عقد جلسات استماع مع الأحزاب والاتحادات العمالية والمجتمع المدني والشباب، بهدف وضع نموذج تنموي جديد، أريد منه تقليص الفوارق الاجتماعية وتأهيل الشباب وحماية الطبقة المتوسطة، وخلق المزيد من الثروات، وتحقيق العدالة في توزيع ثمارها.
أرقام صادمة
ويساهم تقرير أصدرته المندوبية السامية للتخطيط في سبتمبر/أيلول الماضي في دق ناقوس الخطر حول الفوارق، إذ أظهر أن 20 % من الفئات الأكثر فقراً تراجع مستوى معيشتها سنوياً بنسبة 4.6 %، وهي نسبة تصل إلى 1.7 % بالنسبة للأكثر غنى، بينما بلغت بين الفئات المتوسطة 4.3 %. ويستفاد من تحليل المندوبية أن الفوارق تفاقمت أكثر على مستوى الإنفاق على الغذاء، حيث ارتفع مؤشر تركز ذلك الإنفاق من 24.2 % في عام 2019 إلى 31.7 % في عام 2022، ويستخلص من ذلك أن الأسر الفقيرة اضطرت إلى تقليص استهلاك المواد الأساسية مقارنة بالأسر الغنية.
وكانت المندوبية، التي تصدر البيانات حول النمو الاقتصادي والتضخم ومستوى ثقة الأسر، قد لاحظت في تقرير سابق لها أن الفقر تراجع في المغرب، غير أن الفئات الاجتماعية التي لم تستفد من السياسات الاجتماعية ازدادت هشاشة، وتواجه خطر السقوط في الفقر. ورغم تراجع الفقر المطلق من 4.8 % إلى 3.9 %، والفقر متعدد الأبعاد من 9.1 % إلى 5.7 %، تلاحظ المندوبية تزايد حدة الهشاشة في المدن، وهي ظاهرة تشير إلى مدى تعرض الأسر لخطر الوقوع في الفقر عند غياب شبكات أمان كافية تمكنها من مواجهة الصدمات الاقتصادية والاجتماعية.
جزر من الثراء في محيط من البؤس
وكان تقرير النموذج التنموي الجديد قد استطلع آراء المواطنين، والتي كشفت عن مناخ من عدم الرضا وضعف الثقة، حيث جرى تأكيد وجود "جزر من الثراء في محيط من البؤس"، مع الدعوة إلى محاربة الإثراء غير المشروع وربط المسؤولية بالمحاسبة. ويشير التقرير إلى أن جلسات الاستماع أبرزت تنديداً عميقاً ببطء عملية التنمية وتعميق الفوارق، وهو ما يعبر، في تصور واضعي التقرير، عن رغبة عميقة في التغيير نحو مزيد من حرية المبادرة والمشاركة وتكافؤ الفرص. وذهب التقرير إلى أنه في ظل ظروف يطبعها تباطؤ النمو وتدهور جودة الخدمات واتساع الفوارق، برزت توترات اجتماعية، خاصة في المدن الصغرى والمتوسطة، التي شهدت تراجعاً كبيراً في وساطة القرب.
ويرى محمد الهاكش، الخبير في القطاع الزراعي، أن البيانات العامة لا تخفي ما تعيشه بعض الفئات، حيث يضرب مثلاً بالقطاع الزراعي، الذي تظهر فيه الفوارق صارخة بين المزارعين الصغار والمستثمرين الذين يوجهون ما ينتجونه للتصدير. ويذهب، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أنه رغم الأموال التي ضخت في القطاع الزراعي، تعيش الأرياف وضعية تجعلها تحت رحمة الظروف المناخية، خاصة في ظل عدم وضوح الرؤية عند الشباب الذي لا يجد فرص عمل مشمولة بالحماية الاجتماعية، ما يفضي إلى توسع دائرة الفقر والنزوع نحو الهجرة.
اختلالات واضحة
وما فتئ المغرب يعاني التفاوتات بين الجهات على مستوى النشاط الاقتصادي، بما لذلك من تأثير على التنمية وفرص العمل، حيث جرى على مدى عقود تركيز وجود الشركات في الجهات والمدن الساحلية التي تتوفر على إمكانيات اقتصادية ولوجستية مهمة. فرغم تشديد مختلف الحكومات على ضرورة تحقيق نوع من العدالة المجالية في توزيع الأنشطة الاقتصادية، وهو ما استدعى السعي إلى توفير حوافز للمستثمرين الذين ينجزون مشاريع في مناطق بعيدة.
ويشير تقرير المندوبية السامية للتخطيط إلى أن المغرب يضم نحو 1.13 مليون مؤسسة اقتصادية خارج القطاع الزراعي، غير أن خريطة توزعها تكشف عن اختلالات جهوية حادة. فجهة الدار البيضاء وسطات ، تستحوذ وحدها على 22.5% من مجموع هذه المؤسسات، تليها الرباط وسلا والقنيطرة بنسبة 13.6%، ثم فاس ومكناس بـ12%، وطنجة وتطوان والحسيمة بـ11%. أما الجهات الست المتبقية مجتمعة، فلا تحتضن سوى 20% من المؤسسات، في مؤشر واضح على تمركز النشاط الاقتصادي في الشريط الساحلي الغربي، مقابل ضعف بنيوي في دينامية الاستثمار داخل المناطق الداخلية، وهو ما يعمق فجوة التنمية ويضعف جهود تحقيق العدالة المجالية التي تراهن عليها الدولة منذ سنوات.
