عربي
عام 1948، أُعلِنَ قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي من قلب مقر منظمة الأمم المتحدة، دولة متكاملة العناصر القانونية التي تتشكل منها أي دولة في العالم "حكومة، وإقليم، وشعب"، ومن ثم هي طرف من أطراف القانون الدولي.
كل من يدرس ويفهم جيدًا القضية الفلسطينية، يعرف سياق نشأة "إسرائيل"، الذي بدأ بسنوات طويلة قبل الإعلان الرسمي، وهو سياق تاريخي استعماري وإمبريالي غربي، وروايات صهيونية حول اليهود رغم أنها مزورة وغير حقيقية، لكنها محبوكة بشكل جعل معظم المجتمع الغربي وغير الغربي "حكومات وشعوبًا" يُصدّقهم آنذاك وحتى اليوم.
والجميع يُدرك أيضًا أن الأمم المتحدة، تلك المنظمة الدولية التي تُكسب الحق والشرعية القانونية لإقامة الدول، اعترفت بدولة "إسرائيل" على حساب حق دولة فلسطين التي أزيلت من مُعظم الخرائط المعتمدة دوليًّا، والتي لا تزال حتى اليوم دول الغرب تتخبط حول الاعتراف بها من عدمه، بعد الحرب الفظيعة على قطاع غزة المستمرة لسنتين.
تغيّرات مؤثرة داخل أروقة الأمم المتحدة
اليوم، مع استمرار الحرب الإبادية، باتت الأمم المتحدة تبدو وكأنها في مواجهة سياسية ودبلوماسية مباشرة ضد إسرائيل التي اعترفت بحقها في الوجود عنوة قبل ثمانية عقود، ولم تُصدر ضدها أي قرار قوي يُلزمها عبر الجهاز الذي يُعدّ القرارات الإلزامية (مجلس الأمن)، وحتى إن صدر، فإن طابع الإلزامية لهذه القرارات المدخلة في خانة القانون الدولي فيه نقاش فكري وسياسي عميق وعقيم يحول دون تفعيله، خاصة إذا كان الطرف الدولي المعني بالأمر هو دولة "عظمى"، وإسرائيل حليف إن لم نقل نتاج دُول "عظمى".
من المهم النظر بتمعن إلى التغيرات الطارئة داخل منظمة الأمم المتحدة، ليس في جهاز الأمن أو الجمعية العامة، ولكن في داخل المفوضيات التابعة لها المعنية بحقوق الإنسان وحقوق اللاجئين، والمقررون العامون المعنيون بالملف الفلسطيني. وعلى الرغم من أن كل تقارير هذه المؤسسات الأممية الفاضحة للانتهاكات "الإسرائيلية" تضربها تل أبيب بعرض الحائط، لكنها تخلق يومًا بعد آخر حالة غير مسبوقة من الاستهجان والعداء في الأوساط الغربية التي تبنّت ولا تزال تتبنى "الرواية الإسرائيلية" في القضية الفلسطينية.
على مدار العقود الثمانية، أصدر مجلس الأمن أزيد من أربعين قرارًا يدين إسرائيل، كلّها قوبلت بـ"الفيتو" الأميركي، وأحيانًا البريطاني والفرنسي، كما أن قرارات مجلس الأمن لم تعد تخلق حالة من التأييد نظرًا إلى فقدان مصداقيتها، وفقدانها طابع الإلزامية بسبب العطب القانوني المفروض عمدًا على هذا المجلس، لكنّنا نستطيع أن نستشعر التأثير الذي تقوم به المقررة الخاصة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية الإيطالية فرانشيسكا باولا ألبانيزي، وتأثير تقديم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان طلبات لإصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت في أيار/ مايو 2024.
الخطر الحقيقي على إسرائيل يأتي من قلب مجتمعات الغرب ودول الشمال المتقدمة. من المكان الذي بدأت فيه هذه الحكاية الطويلة، قد تأتي عبره النهاية
المجتمعات الغربية تتحرّك وتستطيع..
حالة التغيير الذاهبة في الاستمرار تجاه إسرائيل التي تحدث داخل أروقة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان واللاجئين والمهاجرين، هي نابعة من التغيير المحدث في المجتمعات الغربية في أوروبا وأميركا وحتى أستراليا، أي في "دول الشمال"، وهذه الأسماء من أمثال ألبانيزي وكريم خان وفيليب لازاريني، وغيرهم من الشخصيات البارزة داخل الأمم المتحدة، هم أبناء هذه المجتمعات. ورغم أن حراكهم القانوني وتأثيره لا يزال بعيدًا عن تحقيق العدالة الإنسانية، يبعث عن "خطر" تشعر به إسرائيل جيدًا، وتُدرك أبعاد هذا الحراك القائم ضدها وتجلياته، وهي تُقابله بمزيد من ضخ الأكاذيب والروايات والسرديات المُتقنة في الحبكة والإخراج.
إن الأمم المتحدة بوصفها منظمة عالمية نشأت بعد الحرب العالمية الثانية، مثلما أعطت الحق في الوجود والشرعية لإسرائيل قبل 77 عامًا، قادرة على إعطاء الحق ذاته لفلسطين، وانتزاع قدر من العدالة من تحت أنياب "إسرائيل وحلفائها الكبار" لو تم إصلاح نظامها وإلغاء "حق الفيتو" (هذه مسألة تعني عمليًّا حربًا عالمية جديدة لنشوء قانون دولي جديد)، ومن الضروري إدراك أن المجتمعات الغربية التي تخلّصت من عقد وحواجز تاريخية واجتماعية وثقافية وسياسية لا تزال المجتمعات العربية تعانيها، هي أيضًا تستطيع التخلص من حاجز وعقدة "الذنب" تجاه إسرائيل واليهودية التي استحوذت لعقود على العقل الاجتماعي الغربي بنخبه ومثقفيه، سواء من اليمين أو من اليسار.
الخطر الحقيقي يأتي من الغرب
في هذا السياق، نتحدث ولا نكاد نذكر اسم المجتمعات العربية، لأنها وعلى الرغم من أنها المعنية الأولى بهذا النقاش وبالقضية الفلسطينية، يثبت الواقع أنها لا تزال بعيدة عن قدرتها في التأثير الفعلي والملموس في القضية، وهي إذ لا تزال تصرّفاتها وتحركاتها وتحليلاتها نابعة من مشاعر الهزيمة أو الهزائم الكبرى الممتدة من 1948 وحتى 1967 إلى 1982، واليوم تريد إسرائيل إضافة هزيمة أخرى، فإنها لن تتمكن من مقارعة "مجتمع إسرائيلي" يشعر بالنصر في كل مرة وينتشي به، وتدعمه مجمل قوى العالم.
على العكس من ذلك، فإنه ما من تفسير للحراك الغربي المتصاعد ضد إسرائيل، بما فيه الحراك القانوني داخل الأروقة الحقوقية التابعة للأمم المتحدة، سوى أنّها مجتمعات غير مهزومة، ولا تشعر بالنقص أو الخوف أو تتعرّض لضغط، بل هي فقط تستفيد من المكتسبات الحقوقية والقانونية والدستورية التي تتمتع بها على مدار عقود، وتُوظف هذه المكتسبات الداخلية لصالح الوقوف ضد العدوان والظلم الإسرائيلي الذي انطلق من بيئاتها في وقت سابق، وبات جزء مهم من هذه المجتمعات يدرك أو يستفيق من "غيبوبة" أكاذيب وروايات خرافية عن "الحق الإسرائيلي" في الأرض والدولة التي لا حدود فعلية لها.
إن الخطر الحقيقي على إسرائيل بوصفها فكرة ودولة قائمة قد يكون جزء كبير منه يأتي من العرب ومن المجتمعات العربية التي اختارت أن تُقاوم وتصد مثل المجتمع الفلسطيني في غزة، والمجتمع اللبناني في جنوب لبنان، والمجتمع اليمني، وأسماء مثقفين ونخب سياسية ومعرفية أفنت عمرها في تفكيك الرواية الصهيونية، وأخرى اقتصادية اختارت مقاطعة "إسرائيل"، لكن الجزء الأكبر من هذا الخطر يأتي من قلب مجتمعات الغرب ومن دول الغرب أو دول "الشمال" المتقدمة، ومن المكان الذي بدأت فيه هذه الحكاية الطويلة، وقد تأتي عبره النهاية.