
عربي
طرق الثلاثيني الكردي سردار أمين، أبواباً كثيرة للظفر بوظيفة حكومية، لكن أمله خاب بعد محاولات عديدة، رغم سماعه عن فرص ملائمة لشهادة الماجستير في الفنون الجميلة التي حصل عليها منذ خمسة أعوام. والسبب أن كل شيء في الإقليم له علاقة ما بالانتماء الحزبي المستند إلى جذر عشائري، فالعشيرة تدعم أبناءها سياسياً، وتوزع عليهم المناصب والمغانم، و"أنا لا أنتمي إلى واحدة منها"، يقول أمين الذي يعيش في مدينة السليمانية لـ"العربي الجديد".
بلغة أكثر وضوحاً، "منظومة إدارة الإقليم مبنية على العشيرة"، يقول الباحث وأستاذ العلوم السياسية في جامعة الموصل، فراس إلياس، موضحاً لـ"العربي الجديد" أن دورها معقد، فكلما كانت العشيرة قريبة من السلطة، زاد نفوذها وسيطرتها على مواقع استراتيجية سياسياً واقتصادياً، وضرب مثالاً، بسيطرة عشيرة الهركي التي استوطنت أراضي غنية بالنفط، بمنطقة خبات، غرب محافظة أربيل، وظلت مسيطرة عليها، بسبب قربها من عائلة البارزاني الحاكمة.
ومن ثمّ تطور الأمر حتى شكّلت عائلة البارزاني وعشيرة الطالباني قلبَي الحزبين الحاكمين في الإقليم، كما يقول السكرتير السابق للجنة المركزية للحزب الشيوعي الكردستاني، كاوه محمود، واصفاً المشهد في الإقليم بـ"حكم الأُسر السياسية"، موضحاً لـ"العربي الجديد" أن العلاقة بين العشيرة والحزب في كردستان، لا تزال ضمن بنى تقليدية لم تشق، حتى اليوم، طريقها إلى المدنية بما يحقق العدل والمساواة وحماية حقوق الأفراد.
سطوة البنى التقليدية على الحديثة
تأسس الحزب الديمقراطي الكردستاني على أساس عائلي، واستند إلى عشائر ذات ثقل ونفوذ مكّنت له التأييد الداخلي والخارجي، كما يقول أحد الزعماء في عشيرة الطالباني (فضل عدم الإشارة إلى اسمه لحساسية الموضوع)، قائلاً لـ"العربي الجديد": "لم توفر العشيرة الموارد البشرية فقط، بل ساهمت بشكل كبير في تمويل الحزب وتزويده بالأسلحة والرجال، وخاضت معه النزاعات في مواجهة مختلف الحكومات العراقية على مر التاريخ في مناطق أربيل ودهوك وباهدينان، ومنها عشائر السورجي والهركي والجاف ذات الثقل الاجتماعي الكبير، ما جعل الحزب واجهة سياسية لسلطة اجتماعية أكثر تجذرا في بنيته ومن ثم في دوره المفترض، من مفهوم الدولة المدنية.
وفي عام 1975 انشق جلال طالباني عن الحزب الديمقراطي الكردستاني، إثر خلافات بينه وبين الملا مصطفى بارزاني، وأسس الاتحاد الوطني الكردستاني، ويشير الدكتور عقيل عباس، المختص في الهويات القومية والدينية، والأستاذ السابق في الجامعة الأميركية في السليمانية، إلى أنه بشكل أو بآخر كرر التجربة التي كان فاعلا فيها من قبل، لكنه تميز بأن تنظيمه كان مدعوما من الأغنياء والطبقة البرجوازية في التمويل واستقطاب الكوادر والتمدد المجتمعي والسياسي وفي القلب منه أسرته.
وهو امر لا يختلف فيه الإقليم عن بقية العراق، إذ يحتفظ ما بين 75% و80% من العراقيين بروابط عشائرية قوية تحدد شكل حياتهم، ورغم اختلاف شمال العراق عن جنوبه من حيث التاريخ السياسي والجغرافية واللغة، إلا أنهما يتقاطعان في أن الدولة الحديثة لم تجد سبيلاً لكسر سطوة البنى التقليدية فيهما، بل تكيفت معها، وأعادت إنتاجها بأشكال مختلفة، بحسب دراسة "السلطة القبلية في العراق المعاصر: تحليل اجتماعي"، المنشورة في مجلة كلية التربية للبنات بجامعة بغداد، في السادس من يونيو/ حزيران 2020، التي توصلت إلى أن "البنى العشائرية تفوق الانتماءات الدينية أو القومية في بعض الحالات من ناحية الولاء الشخصي والمجتمعي".
مصالح متبادلة
على الدوام، "أعطى حكام كردستان الأولوية لمصالح القلة على احتياجات الأغلبية، إذ تدعي النخب السياسية تمثيل السكان والعمل نيابة عنهم، لكنها تسن في الواقع سياسات عامة تدعم في أغلب الأحيان مصالح ذاتية وجماعية ضيقة"، بحسب ما جاء في تقرير "أزمة التمثيل في إقليم كردستان العراق"، الصادر عن المعهد الهولندي للعلاقات الدولية (مؤسسة بحثية وأكاديمية مستقلة) في إبريل/نيسان 2023، ويضرب على ذلك مثالاً عبر "قانون الاستثمار، الذي يُمكن المجلس الأعلى للاستثمار (هيئة حكومية) من نقل ملكية قطع الأراضي وتخصيصها للاستثمار الاستراتيجي، وفق قاعدة المصلحة العامة، إما مجاناً أو بأقل من أسعار السوق".
ما بين 75% و80% من العراقيين يحتفظون بروابط عشائرية قوية
نظرياً "يبدو هذا منطقياً، لكن القانون يستخدم عملياً لصالح مجموعة صغيرة من رجال الأعمال المرتبطين بالحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، وهؤلاء حوّلوا هذه القطع إلى مشاريع عقارية حضرية قيمة"، بحسب التقرير السابق.
اللافت أنه بمرور الوقت، ومع تطور الحياة السياسية في الإقليم، لم تكن السيطرة العشائرية موازية أو خارج الدولة، بل تعمّقت ضمن هيكلها، فقد بُنيت الأحزاب الكبرى على شبكات ولاء عشائرية متينة، وهذه سيطرت على مفاصل الدولة المهمة، عبر احتكار المناصب القيادية، فتذهب المواقع الحساسة في الحكومة والهيئات الأمنية إلى العشيرة المهيمنة على الحزب الأكبر، كما يقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الكاثوليكية بأربيل، الدكتور هاوكار جبار.
تقويض فكرة المدنية
قوّضت العلاقة بين العشائر والأحزاب الحاكمة في الإقليم أساس بناء نموذج حكم مدني ومؤسساتي حقيقي في كردستان، كما يقول الدكتور عباس، مضيفاً: "في المنطقة الكردية تشكل العشيرة مصدراً للهوية، وبرغم أن الحزبين الحاكمين ليس لهما صبغة عشائرية في تسميتهما فإنهما سرعان ما تحولا إلى أحزاب عشائرية تتبع نظام التوريث في القيادة".
حتى الأحزاب الأقل سلطة في الإقليم تتحالف مع العشائر، وتمنح مناصب لزعمائها، بغية الحصول على أصوات انتخابية بشكل أكثر تنظيماً، ويجري اختيار هؤلاء المرشحين العشائريين عبر الحزب، خلافاً لما يحصل في جنوب العراق، حيث تدعم العشائر أبناءها المرشحين مباشرة، وليس من خلال عملية حزبية شكلانية، وفق الدكتور عباس، الذي يرى أن العشائرية تخرب الحياة السياسية التي يجب أن تقوم على التنافس السياسي بين الأحزاب، وتعوق التطور السياسي في الإقليم بشكل واضح، إذ "تتحول العشيرة إلى أداة من أدوات السيطرة للأحزاب الكبرى، وتتلاشى بذلك قيمة المناهج والأفكار السياسية المختلفة، وتظهر الانقسامات بين المدن والمناطق".
قوّضت العلاقة بين العشائر والأحزاب أساس بناء نموذج حكم مدني
النتيحة كانت أن حكم العوائل في كردستان حد من نمو الديمقراطية، وأبطأ عملية التحول المدني، حسب ما يراه أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الكاثوليكية بأربيل أحمد كردو، الذي يقول: "هيكل السلطة الذي يعتمد على العشيرة يعكس طبيعة المجتمع الكردي نفسه، فلا تزال العائلة أو العشيرة تحتل مكانة محورية في كردستان، وعلى الرغم من أن بنية الحكم العائلي توفر الاستمرارية والاستقرار، خصوصاً في السياقات الهشّة بالمنطقة، فإنها في الوقت نفسه تشكّل تحدياً أمام تطوير منافسة ديمقراطية شاملة، كما يثير الحكم العائلي تساؤلات حول طبيعة المشاركة في صنع القرار، وفرص الإصلاح المؤسساتي في الإقليم"، مرجحاً أن هذه البنية في الحكم ستستمر، و"هي التي تحدد وتيرة وعمق التحول الديمقراطي".
وبسبب ضلوع العشائر في صنع القرار السياسي، من خلال اعتماد الأحزاب عليها، لم يقترب الإقليم من نموذج الدولة الحديثة، لأن الأحزاب لا تمتلك برنامجاً سياسياً، ولماذا قد تمتلكه؟ بينما تسنى لها الاعتماد على العشائر في الحفاظ على السلطة، بحسب إفادة رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة كركوك، الدكتور برهان علي محمد، الذي قال لـ"العربي الجديد": "أعطت العشائر السلطة للأحزاب، ومنحت الأحزاب المناصب للعشائر، وهكذا باتت الدولة في الإقليم لا تعتمد على الكفاءات، إنما على المصالح المتبادلة بين العشائر والأحزاب".
ما تأثير كل ذلك في مجريات الحياة؟
قادت سيطرة العشائر إلى تغييب فكرة المواطنة وسيادة القانون، حتى صار لدى الحزبين الكبيرين وحدات موالية لكل منهما داخل قوات البيشمركة. إلى ما سبق يضيف الدكتور جبار: "المنظومة القانونية والأمنية منقسمة وموزعة، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الألقاب، إذ ينتمي المديرون العامون وضباط الجيش الكبار ومسؤولو الأمن إلى عشائر تدعم الحزبين الحاكمين في مختلف المؤسسات، بما في ذلك رئاسة إقليم كردستان والمؤسسات الأمنية".
كما تغيب المساواة أمام القانون، مما يُسهل الإفلات من العقاب، ومع ذلك يوجد جانب إيجابي، إذ يَسهل حل بعض القضايا، حين يصعب تحقيق سيادة القانون، فتتقدم الوساطات العشائرية لتفرض حكماً على الطرفين، وفق الأعراف والتقاليد، حسب جبار.
لكن تلك الميزة لا تضاهي الآثار السلبية المترتبة على الهيمنة السياسية والاقتصادية، وتجاوز مؤسسات الدولة إنفاذاً لرؤيتها. ومن وقائع ذلك، ما حدث في يوليو/تموز الماضي، من نزاع عشائري في محافظة أربيل، بين عشيرة الكوران التي يدعم بعض المنتمين لها الاتحاد الوطني الكردستاني، وعشيرة الهركي التي تدعم الحزب الديمقراطي الكردستاني، بسبب أرض متنازع عليها في منطقة خبات، مما خلف أربعة قتلى من عشيرة الهركي، وفق الدكتور عباس، الذي قال: "تتشابه النزاعات العشائرية التي تنشب في الإقليم مع جنوب العراق في أسباب وقوعها، لكن المختلف في كردستان هو أن العشيرة تغلغلت داخل أروقة الحزبين الكبيرين حتى باتت جزءاً من البنية القيادية للإقليم، بينما يقتصر دورها في الجنوب على تعبئة الولاء السياسي وحل النزاعات خارج القانون".
