
عربي
في لقائه الاستثنائي مع الجنرالات والقادة العسكريين الأميركيين الذين قدموا من جميع أنحاء العالم في استدعاء عاجل، أكد الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن الجيش الأميركي سيشارك في "حرب في الداخل"، لمواجهة "جحيم المدن المليء بالجرائم". أقلقت هذه الخطوة القادة العسكريين والجنرالات ومسؤولين كباراً سابقين في وزارة الحرب (بنتاغون) وفي البلاد، محذرين من أن ذلك يتعارض مع مهام الجيش الأميركي، والتي يخالف فيها ترامب تقليداً متبعاً منذ تأسيس البلاد بإبعاد الجيش عن "الحزبية" و"السياسة الداخلية"، ومحاولته استخدام القوات المسلحة لتنفيذ أجندته السياسية الداخلية.
منذ وصوله إلى الحكم في دورته الثانية في 20 يناير/ كانون الثاني الماضي، بدأ ترامب في توسيع سلطاته الداخلية بشكل غير معهود، متجاهلاً ثوابت تاريخية مرتبطة بالفصل بين السلطات ومتجاوزاً قوانين وضعها الكونغرس. واعتمد على أن أغلبية محافظة في المحكمة العليا الأميركية، عيّن هو نفسه ثلث أعضائها البالغ عددهم تسعة قضاة، قد تساهم في السماح له بتمديد هذه السلطة إلى الحد الأقصى، وسمحت له بتجميد مساعدات خارجية أقرها الكونغرس، وحدّت من قدرة القضاة الفيدراليين على عرقلة قراراته على مستوى البلاد واستئناف ترحيل مهاجرين إلى بلدان أخرى غير بلدانهم الأصلية، وتنفيذ الحظر الذي فرضه على خدمة المتحولين جنسياً في الجيش الأميركي. كذلك منحت هذه المحكمة ترامب انتصاراً كبيراً في يوليو/ تموز 2024، عندما قضت بعدم إمكانية مقاضاة الرؤساء على الإجراءات الرسمية التي اتخذوها خلال فترتهم الرئاسية، ما فتح له الباب على مصراعيه لاتخاذ قرارات، ذكر قانونيون داخل البلاد أنها تتجاوز صلاحيات الحكومة التنفيذية وتتعدى على السلطات الأخرى.
تهديد ترامب بنشر الجيش الأميركي
هدد ترامب مبكراً باستخدام الحرس الوطني والجيش لمواجهة الاضطرابات الداخلية، رغم قانون بوسي كوميتاتوس الصادر عام 1878 الذي يمنع بشكل عام قوات الجيش الأميركي من إنفاذ القانون محلياً، وينص بشكل أساسي على أن "الجيش الأميركي يجب أن يكون موجهاً للخارج" وليس "نحو الداخل". وبالفعل نفذ تهديده في يونيو/ حزيران الماضي، بفعل وقوع أعمال شغب في مدينة لوس أنجليس الديمقراطية التابعة لولاية كاليفورنيا، وأرسل قوات الجيش من دون موافقة حاكم الولاية غافين نيوسوم ومسؤولي المدينة، الذين قرروا بالفعل مقاضاة الرئيس. وبالفعل أصدر قاض فيدرالي حكماً قضى بأن إدارة ترامب انتهكت القانون الاتحادي بإرسال قوات لمرافقة أفراد إنفاذ القانون أثناء مداهمتهم أماكن المهاجرين، وأنه تم انتهاك القانون الذي يحظر مشاركة وتطبيق القوات العسكرية القوانين المحلية. وفي أغسطس/ آب الماضي، استغل ترامب بنداً في القانون الخاص بمقاطعة كولومبيا، التي تضم العاصمة واشنطن، وقرر فرض سيطرته على شرطة العاصمة مع نشر الحرس الوطني فيها بحجة مواجهة الجريمة والعنف. وقال "سأنشر الحرس الوطني للمساعدة في إعادة إرساء القانون والنظام والسلامة العامة في واشنطن العاصمة... في عاصمتنا عصابات تمارس العنف ومجرمون متعطشون للدماء".
جيه بي بريتزكر: يهدد رئيس الولايات المتحدة بشن حرب على مدن أميركية
يتمتع الرئيس بسلطة كبيرة على أفراد الحرس الوطني بالعاصمة، بخلاف الوضع في الولايات، التي لدى حكامها سلطة نشر القوات. وصف الديمقراطيون هذا التحرك بأنه ضمن جهود ترامب لاستهداف مدن تميل إليهم، ووجهوا اتهامات له بأنه يصطنع أزمات لتبرير توسيع السلطة الرئاسية. وإلى جانب ذلك، استغل ترامب أن حاكم ولاية تينيسي جمهوري، وهو بيل لي، وقرر للمرة الثانية إرسال الحرس الجمهوري إلى مدينة ديمقراطية داخل الولاية، هي مدينة ممفيس، لتكون ثالث المدن التي استهدفها خلال ولايته الحالية، بدعوى فرض النظام ومواجهة الجريمة. وأعلن أنه يخطط لإرسال قوات الجيش الأميركي إلى مدن أخرى هي نيويورك وشيكاغو وبالتيمور وبورتلاند، وهي جميعها مدن ديمقراطية. ومنذ بضعة أسابيع، وتحديداً في السابع من سبتمبر/ أيلول الماضي، وقبل أيام من دعوة القادة العسكريين الأميركيين في جميع أنحاء العالم لاجتماع استثنائي، وبعد يومين فقط من إعادة تسمية "بنتاغون" من وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، كتب ترامب على منصة التواصل الاجتماعي "تروث سوشال": "أعشق رائحة الترحيل (للمهاجرين) في الصباح... شيكاغو على وشك اكتشاف سبب تسميتها (وزارة الدفاع الأميركية) بوزارة الحرب". ورد حاكم ولاية إلينوي الديمقراطي جيه بي بريتزكر، واصفاً الرئيس بأنه "غير طبيعي"، وقال "يهدد رئيس الولايات المتحدة بشن حرب على مدن أميركية... لن تخاف إلينوي ممن يطمح أن يكون ديكتاتوراً".
ورغم ذلك، فإن التوقعات لم تكن أن ترامب في اجتماعه بكبار قادة الجيش الأميركي من جميع أنحاء العالم سيطالبهم بمواجهة "الحرب في الداخل"، مع اقتراح أن تستخدم المدن الداخلية التي يديرها ديمقراطيون "ميدان تدريب"، فبدلاً من تركيز ترامب في خطابه على التهديدات العالمية، كما اعتداء جميع الرؤساء السابقين منذ إعلان تأسيس الولايات المتحدة في عام 1776، قدّم ترامب في خطابه الطويل في قاعدة كوانتيكو التابعة لمشاة البحرية في فيرجينيا، الثلاثاء الماضي، أحدث أفكاره حول الوجهة التي يجب أن يصوبوا أنظارهم إليها، واختار مدناً أميركية على رأسها شيكاغو ونيويورك ولوس أنجليس وسان فرانسيسكو، قائلاً "سنصحح الأمور واحداً تلو الآخر، وهذا سيكون جزءاً رئيساً من اهتمام بعض الحاضرين في هذه القاعة". كما قال إنه "وقّع أمراً يقضي بإنشاء قوة عسكرية للاستجابة السريعة لقمع أي اضطرابات مدنية، لأنها العدو من الداخل وعلينا التعامل معها قبل أن تصبح خارج السيطرة".
في هذه الأجواء، أعرب مساعد وزير الدفاع الأميركي الأسبق، المحلل العسكري لورانس كورب، في حديث مع "العربي الجديد"، عن قلقه إزاء التوجهات الأخيرة للرئيس الذي يحاول أن يدفع الجيش الأميركي نحو التركيز على مهام داخلية في مدن مثل شيكاغو، نيويورك، لوس أنجليس، بورتلاند، ممفيس، وواشنطن، بدلاً من التركيز على التهديدات الخارجية. واعتبر كورب، وهو خبير عسكري وخدم سابقاً في البحرية الأميركية خلال الحرب الباردة (1947 - 1991)، أن هذا التوجه "يقلل من شأن الرجال والنساء في الخدمة العسكرية، ويبعد الجيش عن مهمته الأساسية التي تتمثل في مواجهة التحديات الاستراتيجية العالمية". وأوضح كورب أن الخطاب الرئاسي الذي ركز على نشر القوات في المدن الأميركية للتعامل مع قضايا وأجندة داخلية لا يتماشى مع المهام العسكرية التقليدية. وقال: "تحدث الرئيس عن التعامل مع التهديدات في مدن مثل شيكاغو وبورتلاند وممفيس وواشنطن. هذه ليس وظيفة الجيش الأميركي أو أولئك الذين يخدمون فيه"، مضيفاً أن هذا التوجّه يقوض ويضعف الرسالة التي يحاول الرئيس إيصالها إلى القوات. وأشار إلى أن الجيش يُعنى أساساً بالتهديدات الخارجية مثل التهديد العسكري الصيني، وليس بالشؤون الداخلية والسياسية، وحذر من أن توجيه القوات للعمل داخل المدن الأميركية قد يحد من قدرة الجيش على الاستجابة للتحديات الدولية الكبرى، وأن نشر قوات الحرس الوطني في المدن قد يقلل من الموارد البشرية المتاحة في حال اندلاع أزمات دولية، مثل هجوم محتمل من الصين على تايوان. وقال: "إذا قررت الصين التحرك نحو تايوان، وكنت بحاجة إلى قوات كبيرة، فلن يكون لديك ما يكفي من القوات للاستعانة بها".
وعن تأثير هذا التوجه على الجيش الأميركي على المدى البعيد، أوضح كورب أن القادة العسكريين قد يتجاهلون "جزئياً" هذه التوجيهات، على اعتبار أن فترة الرئيس الحالية لن تتجاوز ثلاث سنوات أخرى. وأضاف: "سيقول أفراد الجيش: لم يتبقَ سوى ثلاث سنوات، وسنحاول تقييد ما يمكننا القيام به، أو الاعتراض على هذه الأوامر"، لافتاً إلى أن القادة العسكريين قد يلجأون إلى الكونغرس لكسب تأييده في الحد من هذه المهام الداخلية، من خلال الشهادات التي يقدمونها أمام المشرعين. وأكد كورب أن الجيش الأميركي لم يصمم لمحاربة المواطنين الأميركيين، مشيراً إلى تجربته الشخصية عندما انضم إلى البحرية خلال الحرب الباردة، وقال: "عندما انضممت إلى البحرية، كان الهدف مواجهة التهديد من الاتحاد السوفييتي، وليس التعامل مع ما يحدث في برونكس أو بروكلين، حيث نشأت"، وأضاف أن هذا التوجه قد يؤثر على معنويات الجنود الذين ينضمون إلى الجيش لمواجهة التهديدات الخارجية وليس للتدخل في الشؤون الداخلية.
لورانس كورب: لدينا حاملات طائرات لا علاقة لها بما يحدث في شيكاغو أو بورتلاند
وعلى الرغم منذ ذلك، قلل كورب من التأثير طويل الأمد لهذا التوجه، موضحاً أن القرارات الجوهرية التي تحدد مسار الجيش اتخذت منذ زمن بعيد، وأشار إلى أن القادة العسكريين، الذين قضوا عقوداً في الخدمة قبل وصولهم إلى المناصب العليا، سيحافظون على تركيز الجيش على المهام الاستراتيجية. وقال: "لدينا حاملات طائرات لا علاقة لها بما يحدث في شيكاغو أو بورتلاند، وهذه القرارات اتخذت منذ زمن بعيد". في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، علّق كورب على تقلب مواقف ترامب بشأن أوكرانيا، مشيراً إلى أن الرئيس بدأ يميل نحو دعم الحلفاء. وقال: "كان ساذجاً عندما ظن أنه يمكنه التوصل إلى تسوية مع (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين في ألاسكا، لكنه الآن يميل إلى الاتجاه الصحيح". وأضاف أن دعم أميركا للحلفاء قد يؤدي إلى نتائج إيجابية إذا تم تعزيزه. واختتم كورب حديثه بالتأكيد أن الجيش الأميركي سيواصل التركيز على التهديدات الاستراتيجية الكبرى، مثل التحدي الصيني، بغض النظر عن التوجيهات الداخلية، وأعرب عن أمله في أن يتمكن القادة العسكريون من الحفاظ على التوازن بين الالتزام بالأوامر الرئاسية والحفاظ على القدرات العسكرية لمواجهة التحديات العالمية.
محاولات سابقة لترامب
لكن محاولات ترامب لاستخدام الجيش في الداخل ليست وليدة هذا العام، ففي فترته الرئاسية الأولى، حاول وزيرا الدفاع جيمس ماتيس (2017 - 2019)، ومارك إسبر (2019 - 2020)، منع الرئيس من استخدام الجيش محلياً لتحقيق الأجندة السياسية، حيث طلب ترامب نشر نحو 15 ألف جندي لصد ما وصفه بأنه "غزو المهاجرين على الحدود"، غير أن ماتيس أرسل ستة آلاف من أفراد الحرس الوطني وحثهم على الابتعاد عن المهاجرين. وخلال تظاهرات احتجاجاً على مقتل جورج فلويد على يد الشرطة في عام 2020، طلب ترامب إرسال الفرقة 82 إلى شوارع البلاد، لكن إسبر أعلن معارضته، ما أدى في النهاية إلى طرده من منصبه. غير أن وزير الدفاع الحالي بيت هيغسيث، وخضوع الجمهوريين الذين يسيطرون على مجلس النواب والشيوخ لجميع توجيهات ترامب وتعييناته في ما يخص الجيش، سمحا لترامب باستخدام الجيش في مهام داخلية، مثلما حدث في عدد من المدن، مع محاولاته لإيجاد آلية للسماح للجيش بتنفيذ خططه وأجندته الداخلية في مسعى لكسر تقاليد استمرت لأكثر من 250 عاماً بعدم السماح بدور حزبي وعدم نشر القوات داخل البلاد لإنفاذ القانون واستهداف التهديدات الداخلية بدلاً من الخارجية.
ولا يعد استخدام الجيش الأميركي في أمور داخلية أمراً جديداً، فقد أرسل الرئيس دوايت أيزنهاور عام 1957 الفرقة 101 التابعة للجيش إلى ولاية أركنساس، لوقف منع قوات الحرس الوطني بالولاية لتسعة طلاب سود من دخول المدرسة، بأوامر من الحاكم أورفال فوبوس الذي كان مؤيداً للفصل العنصري آنذاك. ولاحقاً في عام 1965 أصدر الرئيس ليندون جونسون أمراً بنشر قوات الحرس الوطني في ألاباما، لحماية نشطاء حركة الحقوق المدنية بعدما هاجمت شرطة الولاية والشرطة المحلية متظاهرين بالغاز المسيل للدموع والعصي. وفي الحالتين كان الرئيس يطبق القانون، ففي الحالة الأولى كان يطبق حكم المحكمة العليا في قضية براون ضد مجلس التعليم، وفي الحالة الثانية كان جونسون يدعم قانون الحقوق المدنية، غير أن ترامب يجادل بأن الحرس الوطني ضروري لمساعدة القوات الفيدرالية في مكافحة الجريمة. لكن محللين وقانونيين يؤكدون أن أوامر ترامب لا تتطابق نهائياً مع الحالتين السابقتين، وقال البروفسور بيتر فيفر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ديوك، لصحيفة نيويورك تايمز: "ما يحدث يضر باحترافية الجيش، وطالما أنه لا يوجد انهيار عام في النظام المدني أو أزمة عالمية، فإنه من الصعب تقديم حجج لنشر الجيش داخل البلاد غير هذه الحجج المنحازة لحزب". ويرى قادة عسكريون أن أحد أهم أسباب تقدير الشعب الأميركي للجيش هو أن قواته لا تنفذ أجندات سياسية، وأكد اللواء المتقاعد تشارلز دنبلاب الابن، لصحيفة نيويورك تايمز، أن استخدام الجيش في الشؤون الداخلية الحزبية سيقلل التركيز على تحديات الحرب في القرن 21، وقال إن "الصين وروسيا وإيران وكوريا الشمالية وغيرهم لن يتراجعوا أمام انشغال قواتنا بمهام الهجرة في شوارع المدن وعملهم قضاة هجرة، بدلاً من وجودهم في أجواء قاسية في مراكز التدريب الوطني والاستعداد لخوض معارك شرسة".
