أرونداتي روي.. سيرة قساوة أم في "ملجأي وعاصفتي"
عربي
منذ ساعتين
مشاركة
تؤكد الكاتبة الهندية أرونداتي روي، مع كل كتاب جديد، أنّ الأدب ليس معزولاً عن السياسة، وأنه الوسيلة الأنجع لفهمها وتفكيكها ومقاومتها. صوتها في الدفاع عن الفلسطينيين، ورفض الإبادة، لا ينفصل عن مشروعها الأدبي والفكري الممتد منذ أكثر من ربع قرن، حيث امتزجت الرواية بالمقال السياسي، والشهادة الشخصية بالالتزام العام. هذا الالتزام يتجلّى اليوم في مذكراتها الجديدة "ملجأي وعاصفتي"، التي صدرت ترجمتها الحديثة إلى الإسبانية عن دار ألفوغارا، عن النسخة الإنكليزية التي صدرت في مطلع هذا العام وحملت عنوان "الأم ماري تأتي إليّ". يأتي الكتاب بعد عقود من التجربة الروائية والكتابة السياسية، ليكشف عن البنية الداخلية التي غذّت إبداع روي: علاقتها المعقّدة بوالدتها ماري روي. لكن مع ذلك كلّه، لا يمكن اعتبار الكتاب مجرد سيرة للأم الراحلة ماري روي. إنه، أوّلاً، وقبل كل شيء، محاولة لفهم التناقضات التي شكّلت حياة الكاتبة ومسيرتها. ضمن هذا الإطار من التناقضات تبني الكاتبة الهندية عالمها: الأم التي كانت في نظر المجتمع الهندي رمزاً للتحرر والإصلاح ـ إذ كسرت القوانين الذكورية عبر معركة قضائية كبرى ضمنت حقوق الإرث للفتيات، وأطلقت مدرسة تجريبية في التعليم الحر - هي نفسها الأم التي صنعت لطفلتها بيتاً مضطرباً مليئاً بالغضب والعنف والانكسارات. طفولة ممزقة تعود روي إلى طفولتها الممزقة، وإلى المشاهد التي لم تفارق ذاكرتها، مثل إهانات الأم لابنتها، أو مقتل كلبها الأليف، أو البيت الذي يتحول إلى ساحة صراع. وتلتقط كيف انتقلت هذه التجارب إلى أعمالها الروائية، بدءاً من "إله الأشياء الصغيرة" (1997)، حيث ظهرت العثة الرمادية رمزاً للرعب الموروث، وصولاً إلى "وزارة السعادة القصوى" (2017)، حيث تتشابك السياسة بالهشاشة الإنسانية. في الوقت نفسه، تعيد الكاتبة قراءة صورة الأم من زاويتين: مناضلة تركت أثراً تاريخياً، وأم خلّفت جروحاً غائرة في نفوس أبنائها. الأدب ملجأً وعاصفة قد يلخص عنوان النسخة الإسبانية فلسفة الكتاب: الأم كانت ملجأً وعاصفة، والحياة التي عاشتها روي كانت بدورها هذا المزج المزدوج بين الحماية والانهيار. ومن هنا، تتحوّل المذكرات إلى تأمّل في طبيعة الأدب ذاته: هل الكتابة وسيلة للنجاة من الألم أم استعادته؟ هل هي فعل حب أم فعل مقاومة؟ محاولة لفهم التناقضات التي شكّلت حياة الكاتبة ومسيرتها إلى جانب هذه الأسئلة التي تُترك مُعلّقة، وإلى جانب الطابع الرثائي العام للكتاب والناجم عن موت الأم في عام 2022، تبرز روي في بعض صفحاته أنّ رثاء الأم هو في حقيقة الأمر، بالنسبة لها، رثاء لـ"الموضوع الأدبي الأكبر" الذي غذّا حياتها. هنا تحديداً يتحوّل الأدب إلى حدادٍ مضاعف، وإلى محاولة مستحيلة لإبقاء المفقود، مصدر الإلهام، حيّاً، ولو بالكلمات. تقدم مذاكرات روي نموذجاً للكتابة التي لا تنفصل عن تجربة الحياة، حيث تتحول الذكريات والصراعات الشخصية إلى مادة أدبية، تسمح بفهم الأبعاد الإنسانية والسياسية لنصوص روي، وتؤكد على أن الأدب قادر على مواجهة الواقع بكل تناقضاته، وتحويل الألم والخسارة إلى رحلة اكتشاف ووعي. وهنا تبرع روي في دمج الخاص بالعام، فالأم التي تُصوّر كـ"ملجأ وعاصفة"، ورمزاً للعنف والحنان والانكسارات، تصبح صدى لمواقف الكاتبة في قضايا كبرى مثل فلسطين، حيث يجتمع الألم والمقاومة والرغبة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه في عالم يعيش إبادة لا تتوقف. إنها مذكرات تدعو للحب، وهي مذكرات تستحضر الأشخاص الذين نحبهم من أجل شيء واحد لا غير: المقاومة؛ مقاومة كل أشكال الألم والعنف والرعب والانكسارات والإبادات.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية