
بعد مروره في مهرجاني "البندقية" و"تورنتو"، اختار صنّاع المسلسل الدنماركي "عائلات مثلنا" (Families like ours) عرضه على منصّات بثّ مختلفة (حالياً على "نتفليكس"). ورغم أن القصّة تدور حول تهديد فيضان في الدنمارك يتسبّب في إخلاء جميع سكانها (واختفائها دولةً)، إلا أنها بعيدة كل البعد عن الصور النمطية لسرديات الكوارث، وتطرح نظرة على الفرد وعلاقته بالمجتمع، وهو ما رأيناه في أعمال أخرى للمخرج توماس فينتربيرغ مثل "الصيد" (2012) و"جولة أخرى" (2020)، الذي نال عنه جائزة الأوسكار لأفضل فيلم دولي. وكما هو معتاد في أفلامه، ينتمي أبطال المسلسل إلى الطبقة المتوسطة العليا، ما يسمح في هذا السياق بالشعور بفداحة فقدانهم امتيازاتهم.
في مستقبلٍ غير بعيد، تواجه الدنمارك إخلاءً كاملاً بسبب ارتفاع منسوب المياه. وبينما يستعد السكّان لمغادرة منازلهم، يتعيّن على البطلة، طالبة المدرسة الثانوية، الاختيار بين والديها المطلّقين والشابّ الذي وقعت في حبّه. تبدأ الأحداث في منتصف الصيف الدنماركي، إذ تستمر الحياة كالمعتاد. ولكن كصاعقة من السماء، يتمزّق كل شيء. فجأةً، فقدت جميع الممتلكات قيمتها، وتُركت المنازل والمؤسّسات وحيدةً، بينما اضطرت العائلات والأصدقاء والأحبّاء إلى النزوح. مَن يملكون المال يسافرون إلى دول غنية، بينما يعتمد الأقل حظّاً على دعم الدولة، ويضّطرون إلى الانتقال أينما وُجد مُتسع. الفوضى والانقسام والعجز تطرق الأبواب.
قبل أيام قليلة من بدء عملية الإخلاء، يتلقّى جاكوب (نيكولاي لي كاس)، المهندس المعماري الناجح، إشعاراً من صهره الدبلوماسي نيكولاي (إسبن سميد)، يسمح له ببيع منزله خلال أيام، نظراً إلى الانهيار الوشيك للنظام المصرفي. رغم كلّ شيء، العملية متحضّرة كما هو متوقّع من دولة إسكندنافية تواجه تهديداً غير مرئي، لا يُلاحَظ إلا في الحلقات الأولى عبر بركٍ كبيرة من الماء على الأرض في الأيام المشمسة. لا يواجه الدنماركيون وضعاً جديداً وهم لاجئون في بلدان أخرى فحسب، بل يواجهون أيضاً فقدان جنسيتهم وهويتهم.
جاكوب مُطلّق من فاني (بابريكا ستين)، الصحافية التي أنجب منها ابنته لورا (أماريليس أوغست)، ويعيش حياة سعيدة مع زوجته الثانية أمالي (هيلين رينغارد نيومان). لكن في الحلقة الثانية، "فصل الغث عن السمين"، تُقرّ لوائح التأشيرة الجديدة، بأن فاني لا تملك الموارد المالية والاستقرار الوظيفي اللازمين للانتقال إلى دول مثل فرنسا أو إنكلترا، وتُخصّص لها شقة مشتركة في رومانيا (كان الخيار الأول في السيناريو هو أوكرانيا، لكن استُبعدت لأسبابٍ واضحة). قبل سنوات، أبدى توماس فينتربيرغ رفضه لسياسات الهجرة التي بدأت تتبنّاها الدنمارك، لذا يعكس "عائلات مثلنا" أيضاً شيئاً من انعدام التضامن الذي تشهده بعض الدول الأوروبية عند اضطرارها إلى استقبال لاجئين دنماركيين.
وكما رأينا في المسلسل البريطاني "الطريق" (2024)، يُشرّد أفراد عائلة عادية، من الطبقة العاملة هذه المرّة، ويضّطرون إلى التضحية بحياتهم. يُواجه نيكولاي وزوجه هنريك (ماغنوس ميلانج) درجة العنف التي قد تُسبّبها مواقف متطرّفة، خاصةً عندما يُفكّران في إمكانية مساعدة شقيقه بيتر (ديفيد دينسيك)، الذي لطالما عادى مثلية شقيقه الأصغر. في هذه الأثناء، تناقش لورا ما إذا كانت ستُرافق والدها إلى فرنسا أم ستبقى مع والدتها في رومانيا. يُقدّم المسلسل بوصفه دراما عائلية تُشبه إلى حدّ كبير أفلام الهجرة الأوروبية الكبرى مثل "بروكلين" (2015، جون كراولي) أو الفيلم السويدي الكلاسيكي "المهاجرون" (1971، يان ترويل). في الواقع، يقيم المخرج في الحلقة الأخيرة مقارنةً مع تحرير الدنمارك عام 1945 بعد خمس سنوات من الاحتلال النازي، وهي لحظة شهدت هجرة جماعية للدنماركيين.
من الحلقة الرابعة، "وداعاً الدنمارك"، تتولّى لورا وصديقها إلياس (ألبرت رودبيك ليندهارت) دوراً أكبر، إذ يمثّلان الأمل في مستقبلٍ يعتمد على الشباب، لكن قصّتهما تنتهي بالوقوع في كليشيهات مبتذلة وتفشل الوافدة الجديدة أماريليس أوغست، ابنة المخرج بيل أوغست، في نقل التحوّل الذي تمرّ به شخصيتها. ومع ذلك، فـ"عائلات مثلنا" دراما مكثفة ومؤثرة للغاية في بعض الأحيان، تثير تأمّلات ذات صلة بمجتمعٍ لا يبدو مستعداً للأزمات الكبرى. لا إشارات إلى جائحة كوفيد-19، رغم أن القصّة بدأت تتشكّل قبل بضع سنوات (كان هناك بعضها في السيناريو ولكن أُزيلت في النهاية). ورغم أن شوارع كوبنهاغن الفارغة في بداية الحلقة الخامسة تذكّرنا على الفور بالإغلاق الصحي.
السيناريو (اشترك المخرج في كتابته مع الشاعر والسيناريست بو هانسن، الذي كتب معه باكورته الإخراجية "أعظم الأبطال"، 1996)، يحمل بعض الحبكات المتوازية التي تبدو معزولة نسبياً، مثل قصّة لوكاس (ماكس كايسن هويروب)، المراهق المتمرّد الذي اختارته، قبل الإخلاء القسري، أكاديمية نادي ليفربول لكرة القدم، ولكن عندما تستدعيه الحكومة الدنماركية، يجب على والدته كريستل (أستا كاما أوغست) الاختيار بين السماح لابنها بالذهاب بمفرده إلى إنكلترا، أو اصطحابه إلى بولندا، حيث خُصّص منزل له. يبدو أن لوكاس يتمتّع بقدرات نفسية معيّنة، لكن هذه الحبكة الفرعية لا تتطوَّر كفايةً. الواضح هنا استمرار بعض الثوابت المشتركة في فيلموغرافيا المخرج: الحفلات، مثل الاحتفال بالعام الجديد، أو الروحانية، وكلاهما يعملان لتعزيز للشعور بالمجتمع، خاصّة في الحلقات الأخيرة. زوجة المخرج، هيلين رينغارد نيومان، التي تؤدّي دور إحدى الشخصيات الرئيسية، هي أيضاً كاهنة في الكنيسة اللوثرية.
ورغم أن المسلسل يتناول كارثة ناجمة عن تغيّر المناخ (عانت الدنمارك من فيضانات عديدة في السنوات الأخيرة)، إلا أن لهجة العمل تبعث على الأمل بشأن قدرة البشر على الصمود والتكيّف مع التغيّرات، بما يتجاوز قرارات الحكومات. فرغم وداع الوطن، لا تزال الأرض تدور. في أماكن كثيرة، ينمو الحبّ أيضاً، ويتصالح الناس، ويبقى أملُ لمّ الشمل حيّاً. دراما عائلية حميمة عن وداع البيت/الوطن وكلّ ما نعرفه، وعن إرادة إنسانية لا تلين للبقاء والأمل والحبّ.
