"وراء الستار الحديدي".. رحلة ماركيز إلى البلدان الاشتراكية
عربي
منذ 5 ساعات
مشاركة

يلازم قارئ غابرييل غارسيا ماركيز "رحلة إلى البلدان الاشتراكية ـ 90 يوماً وراء الستار الحديدي"، (ترجمة وضاح محمود، دار التنوير، بيروت، 2024)، الشعور بأنّه إزاء كتاب مغامرات أو متواليات قصصية. فحضور غارسيا ماركيز القاص والروائي كان ماثلاً في مادته الصحافية، عبر أسلوبه الحافل بالتشخيصات اللاذعة وروح الدعابة، وقبل ذلك كله، مقدرته الفريدة على الرصد والملاحظة العميقة.

يوحي ماركيز في مستهل الكتاب المكوّن من أحد عشر فصلاً، بأن دخوله ألمانيا الشرقية، وهي البوابة التي قادته لاحقاً إلى كل من بولندا وتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي، لم يكن سوى محض صدفة أو لعبة. ففي صباح أحد أيام شهر يونيو/ حزيران من عام 1957، وفي مقهى من مقاهي فرانكفورت، كان برفقة صديق إيطالي، يعمل مراسلاً لعدد من المجلات في ميلانو، وصديقة فرنسية تعمل لدى إحدى المجلات. وكان الإيطالي قد اشترى سيارة لا يعرف ما هو فاعل بها، بتعبير ماركيز، فاقترح السفر بها إلى ألمانيا الشرقية واكتشاف ما وراء الستار الحديدي، ويُحسَم الخيار بإجراء قرعة بقطعة نقود معدنية، لتجيء النتيجة نقشاً! 

هكذا تحوّلت فكرة بدت مزحة إلى حقيقة واقعة، ليكسب القارئ بتحققها واحداً من أبرز الاستطلاعات الصحافية في مجاله، والمكتوب بحسّ نادر لا يمتلكه إلا القليل من صفوة الكتاب. وهنا تستدعي الإشارة إلى أن ترجمة محمود جاءت على قدر عالٍ من الجمالية والانسيابية والمتانة في اللغة. 

مع بدء الإجراءات الحدودية لدخول ألمانيا الشرقية، تبدأ دهشة ماركيز أو بالأحرى خيبته، وهو يصطدم بمنظر جنديين مراهقَين أوكلت لهما مهمة حراسة بوابة المعسكر الشرقي، رغم أنهما شبه أُميَّين وتنقصهما الكفاءة، متسائلاً عن كيفية حدوث ذلك! غير أن دهشة ماركيز تتحول لاحقاً إلى صدمة حين تُعزِّز مشاهد بؤس الألمان الشرقيين انطباعاً حاداً لديه مفاده بأنهم بشر تالفو الأرواح.

ربما كانت ألمانيا الشرقية هي الأسوأ من بين دول المعسكر الشرقي التي زارها الكاتب، عبر العديد من الأمثلة التي يسوقها مُعززة بشهادات المواطنين الذين يلتقيهم، وهو ما يحرص على القيام به في كلّ بلد يزوره، رغم ما يحتمل ذلك من مخاطر، خاصة للمواطنين المرصودين على الدوام من مخبري النظام. في ألمانيا نتعرف على شريحة مما يُعرف بالمجرّدين من الملكية؛ وهم ملّاك سابقون صودرت ممتلكاتهم وأعطوا بعض التعويضات، وقد التقى ماركيز عائلة من هؤلاء واستمع إليها.

شاهدٌ لا ينقل سوى الحقيقة من دون أن يعني ذلك حياديّته

غير أنه ليس بالضرورة أن يكون البؤس هو القاسم المشترك بين هذه البلدان، فها هي تشيكوسلوفاكيا تبدو أقرب إلى النموذج الرأسمالي. وبولندا تتميز بمكتباتها، فهي أكثر المحلات حداثة وترفاً ونظافة وازدحاماً، ووارسو (العاصمة) مليئة بالكتب، وتنتشر فيها قاعات للقراءة تكتظ بروادها. ويحرص البولنديون في حياتهم اليومية على ملء أوقات فراغهم بالقراءة، عند انتظار وسائل النقل أو الوقوف في طوابير من أجل الحصول على سلعة ما. كما ينوّه ماركيز بما يحظى به الكاتب جاك لندن من شعبية في بولندا، كذلك في هنغاريا. في الوقت الذي يُصنف فيه كافكا في الاتحاد السوفييتي، مبشّراً من مبشري الميتافيزيقيا الخبيثة. وللأدب الروسي حصته من الأمانة والصدق اللذين اتصف بهما في تصويره الحياة اليومية. 

يؤكد ماركيز سعيه لأن يكون شاهداً لا ينقل سوى الحقيقة، من دون أن يعني ذلك حياديته. فهو يرى أنه ليس من العدل أن السوفييت يحرصون على إنزال مركبة على القمر في الوقت الذي يعاني الشعب من شح الأحذية، مثلاً. ويُبدي في الوقت نفسه اندهاشه وإعجابه بالكرم الذي يتحلّى به الناس هناك، حد وصفه لهم بالجنون بسبب إسرافهم في ذلك، وهو يعرض الكثير من صور هذا الكرم المذهل بحق، كما تعطشهم إلى العلاقة بالآخر ونشدانهم الصداقة.

ربما يكون ذلك انعكاساً للعزلة التي فرضتها عليهم الدولة، ومعنى من معاني الستار الحديدي الذي حجبهم طويلاً عن العالم. فحتى الأخبار الخارجية لا تُنقل إليهم إلا حين يكون الخبر فائق الأهمية، وهو ما يعلّل أنّ الراديو هناك لا يمكنه التقاط سوى محطة واحدة هي موسكو.

يختتم ماركيز كتابه بفصل رحلته الهنغارية. وهو واحد من بين أهم فصول الكتاب. وهنغاريا لم تكن من بين الدول التي طاف بها الكاتب بصحبة صديقيه، وإنما تحققت الزيارة في فترة لاحقة للاطلاع على واقع البلاد بعد مرور ما يقارب العام على انتفاضة عام 1956، التي طالبت بطرد القوات السوفييتية. هذه الانتفاضة التي ابتدأت انطلاقاً من كلمة ألقاها أحد الطلبة، عند تمثال شاعر هنغاريا القومي شاندور بيتوفي. ورغم الرقابة المفروضة على الوفد، إلا أن ماركيز استطاع الإفلات من قبضة المخبرين الذين قدموا أنفسهم مترجمين، وهم لا يجيدون سوى الهنغارية!


* كاتب من العراق

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية