المعرض العام.. جماليات شكلية بديلاً عن الاشتباك مع الواقع
عربي
منذ 5 ساعات
مشاركة

ما الذي تبقى من رمزية "المعرض العام" منذ تأسيسه عام 1969، في مشهد فني باتت ملامحه أكثر تشتتاً وتنوعاً؟ وهل لا يزال هذا الحدث السنوي قادراً على أن يكون مجالاً لتفاعل الأجيال وتقاطعات الاتجاهات؟ تساؤلات جدية تُطرح مع افتتاح الدورة الخامسة والأربعين من التظاهرة مساء أول أمس بين أروقة قصر الفنون وقاعة الباب بساحة دار الأوبرا في القاهرة، وتتواصل حتى منتصف الشهر المقبل.

الدورة التي تشرف عليها الفنانة إيمان أسامة القوميسير العام للمعرض، تضم 421 عملاً فنياً لـ327 فناناً وفنانة من مختلف الأجيال، في مجالات متنوعة تشمل التصوير، والرسم، والحفر، والنحت، والخزف، والتصوير الفوتوغرافي، والكومبيوتر غرافيك، والتجهيز في الفراغ، والأداء الحركي، والفن التفاعلي، والفيديو آرت.

تشير الأعمال المتنوعة وعدد المشاركين إلى اتساع التجربة التشكيلية المصرية وتعدد مستوياتها، حيث تتاح الفرصة أمام الجمهور العام للاطلاع على إنتاج فني يجمع بين التجريب والتأصيل. ورغم هذا الاتساع والتنوع، تبرز أهمية النقاش حول قدرة المعرض العام على تمثيل المشهد الفني المصري بكل ما يحمله من تعقيد وتحوّلات.

تقدم المؤسسة الرسمية دعماً انتقائياً لأعمال تتناغم مع رؤيتها

على المستوى التنظيمي، يُحسب للمنظمين على حفاظهم على استمرارية تاريخية تُضفي عليه هالة من الشرعية والمكانة الرمزية في المشهد، لكن هذه الاستمرارية، رغم أهميتها، تتحول في بعض الأحيان إلى سلاح ذي حدين، فهي من ناحية تُكرّس وجوده كتقليد ثقافي راسخ، ومن ناحية أخرى تُحوّله إلى كيان بيروقراطي يكرّس الوضع القائم، بدلاً من أن يكون منصة ديناميكية قادرة على استيعاب التحولات الجذرية في المفاهيم الفنية أو الانزياحات الجمالية التي تعصف بالمشهد العالمي، بل وحتى المحلي.

بتركيزه على الاستمرارية المؤسسية، غالباً ما يتبنى المعرض خطاباً فنياً محافظاً، يُقدّم الأمان الشكلي على حساب المغامرة الفكرية. وهو ما يتجلى في عزوفه عن استيعاب التيارات والممارسات الفنية التي تصطدم بالواقع على نحو مباشر، وبينها تجارب وممارسات فنية نابعة من حراك فني محلي مستقل يتحدى التصنيفات التقليدية. 

في مناخ كهذا لا بُد أن يسيطر الميل نحو الشكلانية، حيث تُمنح الأولوية للمعالجات التقنية والصياغات الجمالية على حساب الانشغال بالسياقات الفكرية أو التفاعل مع القضايا الراهنة. هذا الميل لا يبدو عفوياً بقدر ما يعكس توجّهاً ضمنياً – وربما مقصوداً – نحو تجنّب المساحات الجدلية أو الموضوعات التي قد تُصنَّف كحساسة أو متجاوزة للإطار الفني الآمن. في كثير من الحالات، يخيَّل للمُشاهد أن مثل هذه التظاهرات الفنية تقدّم شكلاً من الإجماع الصامت على إبقاء الفن بمنأى عن الاشتباك مع أسئلة الواقع، وكأن هناك اتفاقاً غير معلن على أن الجماليات الخالصة تمثل ملاذاً أو حتى درعاً في وجه تعقيدات المشهد السياسي والاجتماعي.

لا ينبثق الإنتاج الفني من فراغ، بل هو وليد تفاعل عضوي مع سياقه الثقافي والسياسي. في الحالة المصرية، نجد أنفسنا أمام مشهد فني يخضع لآلية معقدة من الرقابة الخفية، وهي آلية تتشكل من الضغوط والمحظورات غير المعلنة التي تشكل وعي الفنان قبل أن تشكل أعماله. فالمعايير الحاكمة هنا لا تُصاغ في وثائق رسمية، بل تترسب في اللاوعي الجمعي للوسط الفني عبر سنوات من الممارسة والتجربة.

هذه البيئة الإبداعية تشبه إلى حد كبير غرفة الصدى (echo chambers)، تكرر فيها الأعمال الفنية خطاباً مقبولاً من الرقابة، بينما تختفي الأصوات الجريئة خلف ستار من التلميحات والرموز الآمنة. الفنان المصري يتعايش مع هذه المفارقة على نحو لافت، فهو لا يفتقر إلى الأدوات التقنية والمهارات الفنية، لكنه يعاني من العجز عن الاشتباك نقدياً مع الواقع خوفاً من تجاوز الخطوط الحمراء، أو حتى اقتناعاً بها وتبني أسبابها أحياناً. 

أعمال فنية أشبه بمنصات عرض، أكثر منها مساحات للحوار

في هذا السياق، يصبح المعرض العام مرآة عاكسة لهذه المعضلة، إذ تحول مع الوقت إلى فضاء يكرس فن البقاء بدلاً من فن المواجهة؛ فضاء تتحول فيه البراعة التقنية إلى غطاء للفراغ المفاهيمي، وتصبح الجماليات الشكلية بديلاً عن الاشتباك مع الواقع، ويفقد فيه الفن جوهره كأداة للتغيير والتعبير الحر. هذه الديناميكية تنتج ما يمكن تسميته فنّ الموافقة المسبقة، حيث يتحول التحفّظ من خيار مؤقت إلى سمة بنيوية في الإنتاج الفني. اللافت أن هذه الظاهرة لا تعمل كقمع خارجي فحسب، بل تتجلى كاستراتيجية بقاء، يتبناها المبدعون بشكل شبه لاواعي. ففي ظل غياب الضمانات لحماية الفن المغاير، يصبح الالتزام بالموضوعات المجرّبة نوعاً من التأمين المهني ضد العزلة أو التهميش.

يخلق هذا النسق دائرة مغلقة من التكرار الآمن، فالمؤسسة الثقافية تقدم دعماً انتقائياً للأعمال التي تتناغم مع رؤيتها، ومن ناحية أخرى، يوجه الفنانون إبداعهم نحو هذه المساحات المضمونة، وهو ما يعزز بدوره هيمنة الخطاب الفني الرسمي. النتيجة هي فضاء تتحرك فيه الأعمال الفنية بين، احتفاء تقني بالأشكال الكلاسيكية، واستعراض للبراعة الحرفية التي تثير الإعجاب، واستدعاء آمن للرموز التراثية والوطنية. 

من النادر هنا مثلاً أن نجد أعمالاً تتناول بجرأة قضايا مثل العدالة والحرية، والتحولات الاجتماعية، أو العلاقة بين الفرد والمجتمع، أو حتى أعمال تنبش في التاريخ لإعادة طرح قضايا إشكالية. بل إن بعض هذه الموضوعات، وإن طُرحت، فغالبا تُقدم برمزية عالية، وبلغة فنية حذرة، تفتقر إلى الصراحة أو المواجهة المباشرة ما يشير إلى فجوة بين الفن كمنتج بصري، والفن كأداة للتأمل والسؤال والتغيير. هذه الفجوة تجعل من العروض الفنية أحياناً أشبه بمنصات عرض، أكثر منها مساحات للحوار وطرح التساؤلات.

إن المعرض العام في صورته الحالية يقدم جانباً من المشهد الفني في مصر، لكنه لا يغطي كامل الطيف. هناك حيوية فنية في مصر بلا شك، لكنها تحتاج إلى مساحات أكثر شجاعة، تسمح بتعدد الأصوات، وتُرحّب بالأسئلة لا الإجابات الجاهزة. المطلوب هنا ليس فقط توسيع قاعدة المشاركة، بل إعادة النظر في مفهوم الجدارة الفنية بعيداً عن الأساليب التقليدية وحدها. ليس الهدف هنا كسر كل الحدود، بل فتح النوافذ، ولو قليلاً، أمام تجارب فنية تشتبك مع العالم، وتضع الإنسان في مركز التساؤل، وتعيد للفن دوره الأساسي كوسيلة لفهم الذات والمجتمع، والاشتباك مع القضايا الملحة التي تخص الناس.

في الختام، لا يمكن إغفال مؤشرات مشجعة برزت في هذه الدورة، التي تتولى فيها للمرة الأولى امرأة مهمة القوميسير العام، ما يُعد خطوة لافتة في كسر احتكار الفنانين الذكور، كما تشهد حضوراً لأعمال التجهيز في الفراغ، والأداء، ما يعكس انفتاحاً نسبياً على الأشكال المعاصرة وتجاوزاً للأنماط الأكاديمية الصارمة. وجاءت بعض هذه الأعمال لتعيد التفكير في العلاقة بين المتلقي والفن، من خلال التفاعل مع الفضاء وتوليد معنى متجدد. أما الإشارات التضامنية مع القضية الفلسطينية، فقد حضرت في عدد من الأعمال بشكل بصري وضمني، مانحةً المعرض بُعداً إنسانياً وسياسياً من دون أن تنزلق إلى الشعارات أو المباشرة.


* كاتب من مصر

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية