الفكر عند المسيري
عربي
منذ ساعتين
مشاركة

الفكر وما أدراك ما الفكر؟

مسمّى الفكر من المسميات الأكثر انتشارًا، ويرافقه اسم المفكّر، ولعلك ترى أنه لا تكاد تخلو مقابلة تلفزيونية من حديث المفكّر الفلاني، فما هو الفكر؟

هل هو تجميع لأفكار؟ أم تنسيق لأفكار؟

يفرّق الدكتور عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، بين الفكر والأفكار، فيقول: "الفكر هو أن يقوم المرء بالرَّبط بين الأفكار المختلفة، ثمَّ يقوم بإعادة تركيبها داخل منظومة محدَّدة تتَّسم بقدر من التجريد والاتَّساق الداخلي، أما الأفكار، فهي أن يَرصد الإنسان الفكرة تلوَ الأخرى، ويُسجِّلها دون أن يحاول أن يرى الوحدة الكليَّة الكامنة وراء التعدُّد".

على هذا، فالفكر هو ربط عدة أفكار وتركيبها ضمن منظومة تفسيرية لظاهرة معينة.

طبعًا، هذا لا يعني تراكمًا للمعلوماتية التي تمتلئ بها الكتب والمجلات دون وجود رابط بين هذه المعلومات المتناثرة، ولا منظومة تقوم باستثمارها، أي المعلومات، وتوجهها في خدمة ما تقدمه هذه المنظومة التفسيرية للواقع المعاش، من دون ذلك، تصبح هذه المعلوماتية معادية للفكر؛ يقول المسيري: "إنَّ المدرسة المعلوماتيّة التراكميّة مُعاديَة للفكر والإبداع. إنها تدور في إطار الموضوعيّة المتلقية السّلبيّة".

هذه الموضوعية المتلقية السلبية تشبه آلة التصوير التي تقوم بالتقاط صور للعالم الخارجي فقط، وليس لها دخل في تحليل تلك الصور، أو أخذ أي صورة تلتقطها أو طرحها؛ يقول عنها المسيري: "لأنّ الموضوعية المتلقية هي التلقي المادي السلبي للمعلومات الذي يؤدي إلى تراكم المعلومات الصماء، المعلومة فوق الأخرى. ولكن المعلومة في حد ذاتها لا تقول شيئًا، بل إنها قد تخبئ كثيرًا من الرؤى والتضمينات الفلسفية والمعرفية المتحيزة".

وهي بذلك لا تجعل للعقل أي دور سوى أن يكون مخزنًا للمعلومات التي يتلقاها هكذا دون أدنى تحليل، فيصبح جامدًا لا تحليل لديه ولا تفسير سوى ما قاله الآخرون.

وهذه الحالة يسميها المسيري "الفوتوغرافية"، ويقول عنها: "ينطوي نموذج الفوتوغرافية على إنكار لمقدرة العقل على الإبداع والتوليد، فهو يفترض أنّ عقل الأديب (ومن بعده عقل الدارس) يقف كالفقير أمام عتبات الواقع يلتقِط منه الفتات، وليس كالأمير يراه في كليته، فيختار منه ويُفكّكه ويُركِّبه كما يشاء، ليَصِل إلى تصوُّرات (أكثر تفسيريّة)".

ويكمن الإبداع ليس في التلقي بل في التحليل لأي ظاهرة تقع ضمن الحس البشري، لكن هذا التحليل يجب أن يكون ضمن منظومة خاصة بالمرء، وليس ملكًا للآخرين، لأنّ كلَّ واحد منا ينظر بعينيه هو وليس بعيون الآخرين، وعدم وجود هذا المنظار الخاص بنا يجعل منا ناقلي فكر الآخر أو مرددي فكره في ببغائية مفرطة.

الفكر هو أن يقوم المرء بالرَّبط بين الأفكار المختلفة، ثمَّ يقوم بإعادة تركيبها داخل منظومة محدَّدة تتَّسم بقدر من التجريد والاتَّساق الداخلي

فالمفكر هو صاحب المنظار الخاص به وليس الناقل، كما يقول المسيري: "صاحب الفكر هو إنسان قد طوَّر منظومة فكريّة تتَّسِم أجزاؤها بقدرٍ من الترابط والاتِّساق الداخلي [فهي تُعبّر عن قلقه وآماله] ويكمن وراءها نموذج معرفي واحد - رؤية واحدة للكون".

ويصل الأمر إلى العقل التوليدي، هو العقل الذي يعمل عبر خرائطه الذهنية ونماذجه الإدراكية على توليد المعرفة، وعلى توليد الخارج، وعلى توليد الآخر، وعلى توليد المعلومات. هذا العقل يستخدم أحيانًا نماذج إدراكية غير واعية، وينتج عبرها معرفته، ويستخدم أحيانًا نماذج إدراكية واعية، وينتج من خلالها معرفته أيضًا.

لو سألنا: من أين تأتي خرائط العقل الذهنية؟

يجيبنا المسيري بقوله: "نظرًا لأن الإنسان لا يستجيب للواقع المادي مباشرة وإنما يستجيب له من خلال إدراكه له، نرى أنه لا يمكن لأي دارس أن يحيط بأبعاد أي ظاهرة إنسانية (سياسية كانت أم اجتماعية أم اقتصادية) إلا بالغوص في أكثر مستويات التحليل عمقًا، أي المقولات والصور الإدراكية التي يدرك من خلالها نفسه وواقعه ومن حوله من بشر ومجتمعات وأشياء، وهذه المقولات والصور تشكّل خريطة يحملها الإنسان في عقله، ويتصوّر أن عناصرها وعلاقات هذه العناصر بعضها ببعض تشكل عناصر الواقع وعلاقاته، وهذه هي الخريطة الإدراكية".

هذا هو العقل التوليدي الذي انتصر له الدكتور عبد الوهاب المسيري، إذ يراه انتصارًا للمنظومة الحضارية الإسلامية؛ التي بها تميّزت الحضارة العربية الإسلامية، وفي ظلها أبدع مفكروها وعلماؤها وقادتها، على حد تعبيره، وبلغتها نطق وعّاظهم وقديسوهم، ولهم في إنجازاتها كلها دور مشهود وجهد غير منكور.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية