
Arab
انقطعت المعجزات بعد انتهاء سلسلة الأنبياء فوق الأرض، وأصبح افتراض بعضهم احتمال حدوث معجزة جديدة من الأمور المستحيلة. لهذا، عندما اعتبر الرئيس الأميركي ترامب أن الخطّة التي أعلن عنها ستنهي الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كان في ذلك واهماً أو تصوّراً مُخادعاً، فالسلام غير واردٍ في سياسات الكيان وأذهان قادته، وقد أثبتت الوقائع التاريخية لهذا الاحتلال أن زعماءه عندما يتظاهرون باستعدادهم للقبول بتسوية ما فرضها السياق تراهم يشقّون طريقاً موازياً لحرب جديدة، يستعدّون لها من أجل توسيع الكيان وفرض هيمنته.
استمرار الصراع حاليا هو في مصلحة القضية، رغم الكلفة العالية التي يدفعها المدنيون بالخصوص. نقول ذلك، رغم الدعاية الجارية حالياً لمصلحة الخطّة المزعومة التي تضمن تحقيق المصالح الاستراتيجية لأقصى اليمين الإسرائيلي، وتبنّاها الرئيس الأميركي. لا يعني ذلك أن الخطّة خالية من إيجابيات مهمّة، ولكنها إيجابياتٌ مقابل ذلك التسليم بالقضاء على المقاومة التي تعدّ حقّاً مشروعاً، وتمكيناً للعدو من تدمير ما تبقى من مقومات الصمود لدى الشعب الفلسطيني، فمن شأن تحويل ما تبقى من فلسطين إلى أرض خالية من السلاح، وتمكين الإسرائيليين، أن يؤدّيا حتما إلى فتح المجال كليا لاستعمار شرس يفتك بكل شيء. وما حصل مع السلطة الفلسطينية، بقيادة محمود عبّاس ومن معه دليل على ذلك. وهي السلطة التي تحوّلت إلى كيان أجوف بدون سلطة تواجه مجتمعا مغلقا وعنصريا ورافضا الحوار مع الآخر. كما أن الخلافات التي في صفوف السلطة بلغت درجة من العمق والتأثير السيئ، ما جعل منها لعبة في يد الإسرائيليين، يحرّكونها في أي اتجاه، فقوة "حماس" تكمن بالأساس في الأنفاق التي صنعتها، وهي الحصون التي سيعمل الجيش الصهيوني على نسفها بعد الشروع مباشرة في تنفيذ هذا الاتفاق الملغّم. عندها لن تكون هناك قوة قادرة على حماية غزّة وسكانها، وحينها سيكون الجميع عرضةً للتهجير نحو صحراء سينا، وهو ما أكّدته حكومة تل أبيب، أو المطاردة والقصف وفق ما يمارسه الجيش الصهيوني من دون توقف، فالثقة معدومة، سواء تجاه نتنياهو أو ترامب وتوني بلير الذي يثير اسمه الضحك والاستهزاء في صفوف الإنكليز بسبب تاريخه المثير للغضب.
"حماس" هي الجهة الوحيدة التي ستقرّر وحدها اختيار الطريق الذي لن يرسم فقط مصيرها، ولكن أيضاً سيحدّد مآل القضية مستقبلا. هذا اختبار صعب ومؤلم في الآن نفسه، لكن بعض الأوراق لا تزال بين يديها، كوجود ثماني دول عربية وإسلامية شاهدة وشريكة في خطة ترامب يمكن أن يكون لها رأي في هذه الطبخة. ويقال عن وجود اختلاف واضح بين الورقة التي تسلمها قادة هذه الدول من الرئيس الأميركي وتلك التي سلّمت إلى وسائل الإعلام بعدما "عدّلها" نتنياهو وأشخاص في خدمة الصهيونية الراديكالية. ومن شأن هذه المناورة الخبيثة الدفع بهذه الأطراف نحو لعب دور ما لمصلحة المقاومة. كما أن عدم التسرّع في إصدار موقفٍ ما لتجنيب "حماس" الوقوع في سوء تقدير فادح، سيكون من الصعب التحكّم في تداعياته، فالثقة معدومة بين قيادة المقاومة وأصحاب المبادرة الذين يهدّدونها بإكمال المهمّة بكل الوسائل "السهلة منها والخشنة". كما أن العديد من المراقبين الدوليين أكّدوا أن المبادرة مختلّة، وتخدم بالأساس اليمين الإسرائيلي المتطرّف، بمن في ذلك معلقون إسرائيليون. كما أن نتنياهو كان واضحا عندما أعلن أنه بفضل هذه المبادرة قلب الطاولة على "حماس" التي نجحت في عزل إسرائيل دوليا. كما أن الأسطول العالمي للصمود نجح في تسليط الأضواء على وحشية القمع الصهيوني لشعب أعزل يتعرّض للإبادة الجماعية، وكادت بعض سفنه أن تعانق السكان الجوعى على أرض غزّة. كلها عوامل مساعدة لتحسين المبادرة والتقليل من سيئاتها القاتلة.
تمرّ القضية الفلسطينية بمنعرج خطير. على الجميع أن يدركوا أن التاريخ لن يرحم أحداً إذا شارك، بقصد أو بحسن نية، في دفن القضية إلى الأبد.
