
شهدت باريس، السبت الماضي، مظاهرةً حاشدةً دعت إليها منظمة ''فيمن'' (FEMEN) النسوية الراديكالية (رأت النور في أوكرانيا في 2008، قبل أن تُنشئ لها فروعاً في بلدان أوروبية أخرى)، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة. رفعت المتظاهراتُ شعارَ ''ضدّ وباء الفاشية''، الذي يجتاح بلدان الغرب، ورسمْن على أجسادهن شبه العارية الأعلامَ الأميركية والروسية والأوروبية، والرموزَ النازية والفاشية، وصورَ دونالد ترامب وفلاديمير بوتين وجورجيا ميلوني ومارين لوبان وإيلون ماسك، فيما بدا احتجاجاً على الحرب الروسية الأوكرانية وصعود اليمين المتطرّف وتغوّل الليبرالية الجديدة.
بالطبع، لم يكن متوقّعاً أن تصدح حناجرُ المشاركات في المظاهرة المذكورة (وغيرها) بشعارات التضامن مع نساء غزّة المكلومات، فمعظم الحركات الاجتماعية في الغرب غالباً ما تتجنّب في ''نضالاتها" ما يمكن أن يتعارض مع السرديتَين الإسرائيلية والغربية بشأن الصراع. بيد أن ما حدث في غزّة من إبادة وتطهير عرقي وتدمير يفوق الوصف، كان من المفروض أن يدفع النسوية الغربية إلى تبنّي مواقفَ أكثر إنسانية وإنصافاً إزاء إبادة أكثر من عشرة آلاف امرأة وفتاة فلسطينية بيد آلة القتل الإسرائيلية.
معظم المظاهرات التي شهدتها مدن الغرب (السبت الماضي) أسقطت معاناةَ نساء غزّة من ''حساباتها النضالية''، وفضّلت المشارِكات فيها رفع مطالب تقليدية، من قبيل ''مناهضة أشكال التمييز ضدّ المرأة'' و''العمل من أجل وضع حدّ للتمييز القائم على العنف الاجتماعي''، من دون حدٍّ أدنى من التضامن مع هؤلاء النساء اللواتي تعرّضن للإبادة والقتل والتعذيب والأسْر والعنف الجنسي والتجويع والحصار، وغيرها من الانتهاكات الجسيمة، التي عادة ما يُلاك بشأنها ''كلام كبير'' (بتعبير أشقائنا المصريين) في المؤتمرات والمنتديات الدولية ذات الصلة.
أكثر من ذلك، لم تتردّد منظّمات نسوية غربية في تدوير الأسطوانة المشروخة بشأن اغتصاب عناصر المقاومة الفلسطينية نساءً إسرائيلياتٍ والاعتداء عليهنّ في هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، على الرغم من الثقوب المحيطة بالرواية الإسرائيلية في هذا الصدد. حتى الحياد، الذي يُفترَض أن يطبع التعاطي مع تعقيدات الصراع، بدا بالنسبة لهذه المنظّمات مجازفةً قد تنتهي بقطع موارد التمويل عنها. والواقع أن النسوية الغربية تكاد لا تخرج عن ''خطٍّ نضالي'' رسمته لنفسها منذ عقود، بعدم مجازفتها بتبنّي قضايا نسويةٍ من دون عائد سياسي يخدم مصالح الدول الغربية الكبرى؛ فهي مستعدّةٌ لأن تقيم الدنيا وتُقعِدها، بسبب ناشطة في هذا البلد العربي أو ذاك، تتعرّض حقوقها في الرأي والتعبير والتفكير واللباس للانتهاك. وليست بعيدةً واقعة الفتاة الإيرانية مهسا أميني، التي قضت بعد اعتقالها من شرطة الأخلاق الإيرانية بسبب عدم ارتدائها الحجاب بطريقة سليمة، فهبّت منظّماتٌ نسوية غربية لإدانة مقتلها والمطالبة بفتح تحقيقٍ عاجلٍ وتقديم الجُناة إلى العدالة. ولم تكتفِ بوصلة النفاق المعلومة تلك، بل قامت بتعبئة مدروسة داخل كواليس البرلمان الأوروبي، أثمرت، في النهاية، منح الأخير جائزة ساخاروف لأميني، في 22 ديسمبر/ كانون الأول 2023، في ذروة حرب الإبادة الوحشية على غزّة. لم تحظَ واقعةُ أميني باهتمام النسوية الغربية إلا لأنها تتوافق مع انتقائية خطابها وازدواجية معاييره، وتصبّ في المجرى العامّ للسياسات الغربية تجاه النظام الإيراني.
حتى عندما وجدت النسوية الغربية نفسها محاصرةً إعلامياً بمشاهد الموت والدمار والإبادة والنزوح في غزّة، لم تتردّد في تحميل حركة حماس مسؤولية ذلك بكلّ صفاقة، باعتبارها حركةً "إرهابيةًَ"، وفق مدوّنة السلوك الغربية (الاستعمارية). وغدت معاناة المرأة الفلسطينية، وفق هذا المنظور الساقط، مجرّد تفصيلٍ صغير أمام حجم ''معاناة'' النساء الإسرائيليات، الأقرب بطبيعتهن إلى القيم الغربية، سواء من فقدن أفراد عائلاتهن في "السابع من أكتوبر"، أو من لا يزلن ينتظرن عودة أفراد عائلاتهن من الأسْر في غزّة.
رصيدٌ آخر يُقتطع ممّا يُفترَض أن النسوية الغربية راكمته عقوداً. وبذلك تكون هذه النسوية قد سقطت من الناحيتَين الأخلاقية والحقوقية، وفقدت مصداقيتها بعدما فضلت تجاهل مقتلة غزّة، التي تعرّضت فيها حقوق المرأة بيد الاحتلال الإسرائيلي لأبشع الانتهاكات.

Related News

