
انتشر مقطع قصير مُجتزأ من وثائقيّ "التنافس في الموسيقا: توسكانيني وفورتفانغلر"، نسمع فيه المايسترو الإيطالي أرتورو توسكانيني يُقرّع أحد عازفي الأوركسترا. في الواقع، الأمر أكبر من تقريع، إذ امتدّ إلى شتائم بذيئة، وصياح غاضب في عبارات أقلّها أن العازف "بلا عينين وبلا أذنين"، أي هو أحمق بالمطلق، ولا يتقن قراءة النوتة أو تنفيذها. نتحدّث هنا عن عازفين تمرّسوا بما لا يقلّ عن عقد ونصف عقد في العزف الاحترافي قبل أن يصلوا إلى مستوى يؤهّلهم للعزف تحت قيادة توسكانيني. يُختَتم المقطع بعازفين يعلّقان بأنّ هذا التعامل القاسي (المرفوض) لم يعد صالحاً لزمننا، بمعنى أن التعامل اليوم قائم على احترام متبادل.
نحن هنا أمام استقطاب صارم: إما أن تقسو فتُبدع، وإما أن تحترم فيقلّ إبداعك. لعلّ قائلاً يقول: "ماذا عن تلازم الإبداع والاحترام؟". هذا، في واقع الحال، رابع المستحيلات الثلاثة. فالفنّ يرتبط بمَنح نفسك كلّياً إن أردتَ بلوغ أعلى المراتب الفنية، أو العبقرية التي باتت كلمة مستغربة في زمن "المديوكر" اليوم. هل كان العزف سيتحسّن لو طبطب توسكانيني على كتف العازف؟ لا نعرف الإجابة بطبيعة الحال، ولكن بإمكاننا تقليب صفحات التاريخ الموسيقي، حيث امتاز القادة العظماء بصرامة لامتناهية. لم ينقل أيّ عازف من العازفين عن هؤلاء أنهم كانوا "لطفاء" أو "متساهلين". الاحترام، في هذا المقام، للفنّ وحده لا للفنانين. وهذا يفترض بالضرورة قمع الفنانين وتقريعهم إن أخلّوا بالمعادلة البسيطة التي تقول إنّ الفن لا يعطيك شيئاً منه إلى أن تعطيه كلّك.
ثمّة مثال آخر هو لاعب السلّة الأميركي البارز مايكل جوردان الذي نراه في مقطع من وثائقي "الرقصة الأخيرة"، وهو يردّ على تساؤل بشأن استقطاب اللطف وقسوة الإنجاز. نجد الردّ ذاته لدى جوردان، إذ يرى أنه لا يطلب شيئاً من الآخرين لم ينفّذه هو بذاته، ومَن ساواك بنفسه ما ظلمك. لا معنى للتحريض إن كان مترافقاً مع طبطبة، بل أن تعمل دوماً وكأن مشروعك الحالي ينبغي أن يكون أعظم مشروع في العالم. تلك روح جوردان المعروفة في اللعب الذي يوشك أن يكون ساحة قتال، ولكن يباغتنا فجأة حين يغصّ بدمعتين، لندرك أننا ننظر إلى الأمر من زاوية خاطئة.
كلمات صعبٌ أن نسمعها في زمن الصوابية السياسية والهشاشة
ليس توسكانيني أو جوردان كارهَين للبشر أو لزملائهم أو لمُريديهم، بل هم يكرهون الإخفاق. الإخفاق هو الكابوس الأوحد الذي يطاردهم في يقظتهم ونومهم، ولا سبيل إلى طرده إلا بأن تقسو على نفسك، وأن تختار الطريق ذات السالكين الأقلّ، الطريق الأصعب، طريق النجاح؛ بل أن تقسو أكثر حتى لو أُسيء فهمك وعُزلتَ عن الآخرين.
نُلام أحياناً حين نشير إلى الماضي بوصفه أفضل من الحاضر. ليس الأمر محض نوستالجيا زائفة، بل إن الأمر مرتبط باحترام الفنّان لفنّه. ما من عمل فني عظيم وُلد من طبطبة أو استسهال أو اختصار مراحل أو فهلوة. يكتب الروائيّ بقفاه، كما يقول منيف. أي، لا يمكن للروائيّ أن يكون روائياً إلا حين يعتاد الجلوس ساعات طويلة كي يكتب ويمزّق. فالاحترام الأوحد المطلوب في العملية الفنّية هو للفنّ وحده، لا لأحد أو شيء آخر.
قد يكون تلقّي هذه الكلمات صعباً اليوم، إذ نعيش في زمن الصوابية السياسية، وهشاشة التكوين، والمعارك الثقافية بالشوكة والسكين. هو الزمن الأسهل، ولذا نجد تضاعفاً مرعباً في النتاجات الفنية والثقافية، ولكن لم يكن الكمّ يوماً عنصراً مهماً من عناصر الفنّ. وما نتعلّمه من هذين الوثائقيّين ومن الأسماء القديمة التي توشك أن تُصبح ديناصورات، هو أن القسوة شرط ضروري لنجاح تجربة الفنّ: أن تقسو على نفسك وعلى الآخرين، وأن تسعى للنجاح حتى لو كان النجاح يستلزم عزلة قاسية أو سوء فهم من أنصاف المواهب الذين احتلّوا حياتنا.
* كاتب ومترجم من سورية
