في مديح الشيخ عبد السلام الأسمر

1
صوتٌ أو لعلّها ضغطةُ يدٍ خفيّة ما يُسقط أوراق الأشجار!
الشجرة تعرف وهي تقف قبالة الشمس والليل والريح.
الشمس تأخذ دفئها،
الليل يأخذ وحشته،
أما الريح تضع سريراً تحت كلّ ورقة،
فلا جراح ولا نزف ولا دموع!
بعضنا يسمّيها حلقة الخلود.
بعضنا يسمّيها لهب الطين يذهب إلى جمرته.
آخرون يقولون إنها رغبات نويرات حاملة أسرار.
آخرون يقولون لا، لا هذا ولا ذاك.

انظر تحت قدميك، 
إن رأيتَ عشبة فتلك صيحة روحك،
إن رأيتَ حجراً فذلك صيحة قلبك المقهور،
إن لم تر شيئاً فأنت في البرزخ لا تعلم أيّ أرض هبطت!
اجمع خرافك يا راعي الشهوات،
خذها إلى الحقل وخذ مقعدك فوق الصخرة العالية.

2
كم مرّة ارتدت السماء قلنسوة الشيخ؟
كم مرّة ارتدى الشيخ قلنسوة السماء؟
حين يعبر السواني والمسارب، 
يعلقُ بقدميه الغبارُ والطين، 
تُبهجه روائح التين وأزهار الفلّيّة.
يدخل ضوءُ الشمس كوّة الخلوة في مسلّاتة، 
يدخل كلامٌ شفيفٌ شجيّ قلبه.

3
يا ضارب البندير، 
اطرحْ أثقالكَ في الشارع، 
لن تبتلّ قدماك بماء النهر،
نهرنا ماؤه نور!

يا ضارب البندير،
أرى اسمك 
في زيتونة تحت نجمة عالية 
في عنق طائر يسرق التوت
في قلب سلحفاة تعود خفيفة إلى بحرها
في استدارة حصاة تنصت إلى قارب يقترب
في سبّابة عجوز تُسبّح في خلوة

في يزليتن (زليتن)، 
السمع يأتي في صورة تمرات بكراري،
الصمت يأتي في صورة غربال في فم ريحٍ.
وراء قوز رمل تملأ صحناً صنعته لك خالتك،
من سعف نخيل تاورغاء بالحصى الملوّنة.
هل أتعبتكَ الكلمات في الرمل؟!
هل جرحتكَ الأصوات؟!
هذه ليست أصوت حصى، 
بل همهمات خالتك في التسبيح.

4
مذْ كنتَ صبيّاً، 
وأنتَ تبحث عن خيط برقٍ، لمع على جدار طيني.  
رفعتَ بصرك إلى السماء، كانتْ زرقاء بلا غبش. 
خيط برقٍ خطفَ حمامة قلبكَ،
خطفَ ظلّاً أخفيتَه في ثنية حلم لم يفارقك.
ها أنت ذا الآن تجلس على حجرٍ،
تفصّصُ البلحَ للدراويش.

5
عندما حان وقتُ شجرتك قيل لك:
"اخترْ شجرة زيتون أو شجرة تين".
لكنك اخترت شجرة سدرٍ!
قلتَ هي أُخت الريح وابنة الرعد.
قلتَ كلاماً كثيراً، لم نفهمه، 
حين رأيتَ الحيرة على وجوهنا، 
رفعتَ بنديرك عالياً في الهواء وابتسمتَ.

6
اليعسوب اقتربتْ من بركة ماء بحجم الكفّ
ضوء الشمس اهتزّ على إصبعك حين رفرفت أجنحتها
"هذا يشبه تنهيدة ذاكرٍ مخطوف الوجدان!" همستَ
ثم أضفتَ: "أشياء تغرق في أشياء، ماء أو لا ماء!".

7
الزورق من بضعة خطوط لا أكثر!
رَجلٌ من خطٍّ واحدٍ، ورَجلٌ من ثلاثة خطوط.
كيف يغرق خطّ في ماء؟!
البحر حِبرٌ ممدود.
الأرضُ سماعٌ ممدود.

8
كنتَ مع الجموع أمام الباب
لا قفل يدخل فيه مفتاح
لا خادم يكنس الكلام عن العتبة
الباب ينتظر انكسار قلب العاشق على البندير.

هل تذكر ذلك النهار
الغيوم ثقيلة كانت
لكن لم يسقط مطر من السماء
نزلتَ الهضبة لا تركض ولا تمشي
التفتّ وراءك صوب شجرة سدرٍ وحيدة 
ثمّ قطعت حقلاً
- هل كان حقل شعير أم قمح؟! -
تلتقط ذرّات غبار ترقص في ضوء الشمس.

9
اختلطتْ الأعواد في البحر
احتار البحّار كيف ينجو!
"ادفع يديك عميقاً في الماء، تنجُ"، قال الغريب الواقف على الشطّ.

10
البهيمة 
تتبعُ رائحة، تتبعُ ظلاً
إلى واحة الكلمات 
حيث لا سغب ولا لغب.

11
القارب 
يحمل الورود إلى الضفّة الأُخرى،
يحمل الفراشة إلى حقل فول
القلب رقّاص ساعة 
لا ينام الليل ولا النهار
القارب فارغ
الشاطئ موحش.

12
استوى المركب على رأس الجبل
لم ينزل منه أحد
لم يركب إليه أحد
مع ذلك لا تتوقّف الشجيرات من
غمر ظلال الخطوات الصاعدة والنازلة
بالماء والطين.

13
ستمشي زمنك يا رجلُ 
محنيّ الظهر أعمى
ستهرب الكلمات في الشوارع منك
حسبكَ طائر يتبعك ولا تراه!

14
تتّخذ بيتاً في غيمة ثم ترحل وحيداً إلى واحة أو بلدة مهجورة
تتّخذ بيتاً في مغارة في جبل يحفظ وجوه العابرين
تتّخذ بيتاً في قطرة ندى تشاركه مع خنفساء 
كلّ البيوت لها جذور في الطين
أأنت الجذر أم الطين؟!

15
القوس له حياته 
مثلما للبجعة حياتها وللسنونو حياتها
الحياة محض جناح يخفق في برّية 

وقتكَ يتشبّه بماذا؟!
بماء عذبٍ وماءٍ مالحٍ
بانكسار وقع الأقدام على الرخام
بأوقاتٍ تتخمّر في عجينة الدهشة.

16
الصمت في حقل الذرة يقف دائماً عند بيض القبرة
الكلام في حقل الذرة يقف دائماً عند اهتزاز خيط عنكبوت
ادخل يا رجل حقل الذرة حافي القدمين وقِفْ حيث تشاء.

كلّ دروبك تؤدّي إلى وادٍ وبيوت طين 
كيف لم تتعلّم فلاحة الأرض؟
كيف لم تتعلّم بناء البيوت؟
كيف تنظر إلى السماء ولا تنظر بين قدميك؟
الجامع صار بيتك الآن،
لكن قلبك فارغ وموحش!
حين التفتّ وراءك لم ترَ دليلك
لم ترَ قنديل الخادم
لم ترَ جثّة ابنك الملقاة في الخلاء.

17
الجمل رجع وحيداً 
وضعتَ جبهتكَ على جبهته 
بكيتَ وبكى
حين أخذتَ مخلاتكَ ورحلتَ
مات الجمل!

كلّ دقّة بندير زهرة تفتّقتْ في خلاء
كلّ صهيل فرس عودٌ يطفو على ماء
ما أبهى استدارة البندير!
ما أبهى استدارة الشمس! 

18
النقر على البندير 
الرقص في قلب الزهرة 
يا شيخ يا عابر سبعة بحور
امسح عن قلبي الحزن الثقيل
افتح لي باب الخلوة
يا شيخ يا عابر سبعة بحور!

سرير الكلام في الشجرة
النحل داير غمامة
الليل ما يعقبه غير صبح
ما يتعب القلب إلا غرامه!

19
نويرة الزهرة مثل نويرة الكلمة
الوردة كمان الريح
الكلمة جوزة تختضّ فيها الزلزلة
كنْ الوردة أو
كُنْ الكلمة
سيّان، أنت في الحالتين
هواء منثور في عتمة.

20
يدٌ على الماء
يدٌ على الرمل
هكذا يتأرجح قلبٌ بين ماءٍ ورمل
هكذا يدخلُ الكائن طمأنينة أبدية.

ادفعي يا ريح أركان العرش
ارخِ يا شيخ حبل الدنيا
الجدران عالية في بيت الروح
العيدان مشقوقة في الشجرة.

* الشيخ عبد السلام الفيتوري الأسمر، (1475 - 1573 ميلادية). وُلد ومات في مدينة زليتن الليبية. أحد أقطاب الصوفية في ليبيا وشمال أفريقيا.

** البندير: الدفّ.

 

***  شاعر من ليبيا