حينما تعجز الكتابة وتدخل بيت الطاعة
Arab
5 hours ago
share

منذ عقد، تسود الكتابة في بلاد العرب غمامةٌ، اشترك الجميع في صناعتها طاعةً لخشونة السلطات، وكأنّها حالةُ عقد خفي غير مكتوب، وكلّ واحد قد احترم مقداره محافظاً على مسافة الحياء والخشية من أظافر السلطات، التي باتت تخربش، لا في ما تحت الثياب فقط، أو في ما وراء النيات، بل تحت الجلد، وقد تطاول اللحم الحيَّ أحياناً.

اصطفافٌ أيضاً غير معلنٍ للسلطات على قواعد تلك الخشونة، هنا وهناك حتى، وإن تجمّلوا بواسع الابتسامات أو الحيلة، أو توزيع نسماتٍ قليلةٍ على الحقل الصامت كل آن، هنا أو هناك، حسب الطلب.

خبت جذوة نار الكتابة، وصارت تاريخاً يحنّ إليه بعضُهم في خجلٍ وكتمان، وخاصّة الكبار، بعد طول التعب وقلّة الحيلة، بل صار بعضُهم لَبِنات مساعدةً للسلطات في تزيين معمار خشونتها، حتى من لم يطلب منهم ذلك، ولكنّه الكرم الحاتمي للنخبة، حتى وإن لم تبحث السلطات عن ذلك الكرم من الأصل. أمّا لو بحثت، فالنخبة أيضاً تحت الطلب، وهذا كمال الشرف للتاريخ والوطن.

هل وصلت بالفعل خشونة السلطات لا إلى اللحم فقط، بل إلى العظام أيضاً في بعض الحالات، التي يشمئزّ المرء من تذكّرها، كحالة الفنّان علي فرزات، ما جعل الكتابة تتدارى في غلالاتها الشفّافة أو السميكة، وبعضهم صمت تماماً أو هاجر أو دخل سعيداً إلى حقل الترجمة، أو سكت بجوار أحفاده الصغار، استعداداً لموسم الجوائز حصداً للبركات أو الرحمة، وبعضهم طواه النسيان تماماً عن زهد قليل أو قلّة حيلة، وخاصّة بعد ارتباك العالم كلّه بعد كورونا أو الحرب الأوكرانية، حتى كانت الخاتمة بهدم غزّة عن بكرة أبيها. فهل الكتابة كالممالك أيضاً تمرّ بفتراتِ فقرٍ وأزمةٍ وخفوتِ صوت؟

كانت هناك خلايا نحل قبل هذا العقد في المجلس الأعلى للثقافة بمصر، وكان نصيب الصوت السلطوي قليلاً جدّاً، وفي سورية مطبوعات الفنّ السابع، وترجماتها، وفي السينما أيضاً بمحمّد ملص وآخرين، وصحيفة الحياة اللندنية... إلخ، وإذا بالسلطات ترفع العصا في وجه الجميع، وتمحو أغلب المؤتمرات الثقافية، وتوقف طبع المجلّات الرائجة، أو تحوّلها كرّاساتٍ، وتعمل المطابع في كَسلٍ، وكأننا في أعوام رمادة، وتحت أمر السلطات للتلقين ولزيادة التمكين، وانكمشت الكتابة تحت أجنحة السلطات، وعرفت طريق البيات الشتوي، وانهزمت في عُقر دارها تماماً، وكأنها كانت حلماً، وفركتَ عينيْك فضاع منك، وتتكلّم مع نفسك الآن عنه وكأنّه كان حلماً جميلاً.

تعيش الكتابة الآن في غابة صامتة وموحشة، وقد تحجّرت أشجارها تماماً، غابة بلا ظلال ولا نسيم، غابة يسودها الخوف الذي سكن رأس الكاتب نفسه، وسكن أسفل عشبة الكتابة الليّنة، وسكن قلب الكاتب، وسكن أدراج مكتبه، حتى إن ذكر بعض الساسة في لؤم ثعلب أن "غداً سيكون الفرج، وسيكون أجمل بكثير، وعلينا التمسّك بالأمل".

أين ضاعت أو تاهت تلك الوشيجة التي كنّا نمسك بها، وتتعلّق بقلوبنا في المقاهي مع الأصحاب والكتب والأحداث، بعدما صفّوا الكاميرات بلا عدد في محطّات السكّة الحديد ودار الكتب ومقهى الحرية ومقهى الجريون وأستوريل وزهرة البستان وهيئة الكتاب، وفي كلّ مكان تدخله وشيجة اللطف التي كانت تجمّل حتى الفقر، أو قلّة الحيلة، أو حتى تعثّرك في العمل أو النفقات المنزلية المطلوبة والعيال؟ أين ذهبت تلك الوشيجة العامّة التي كانت تعلق بالروح والجسد معاً، حينما كنّا نضحك في صحبة محمّد مستجاب، وعم فاروق عبد القادر، بلا كاميرات أو خشية من كلام، أو أذىً، في مقهى الشامي أو سوق الحميدية؟ هل استطاعت السلطات تأميم حتى الحالة الشعورية للساعي إلى الكتابة أو المُحبّ لها أو المتحنّث إليها أو حتى الفضولي إلى جماليتها، من دون أن يمتلك أدواتها من بعض المتعثّرين في نيل مودّتها وكتّابها؟ ... وكم كان أيضاً هؤلاء لطفاء وأصحاب دماء خفيفة، حتى إن تعثّروا فيها، على الأقلّ كانت أرواحهم البسيطة لا تعرف خشونة السلطات، ولا تفكّر فيها، كانوا يجلسون في المقاهي بكامل طيبتهم من يعمل في مخبز أو من يمتلك محلّ أحذية أو من يعمل في الشؤون الاجتماعية ببهتيم. حتى هؤلاء، فُقدوا في ذلك الحريق المرعب، وبعضهم مات ميتةً غير رحيمة أو إنسانية مثل غرق الكاتب والشاعر كمال عمّار، حينما وجدوه ميتاً في ترعة الخطاطبة. هل يقول الواحد: وداعاً لكلّ جميل لامسه في رحلته البسيطة؟

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows