وليد الخالدي.. المؤرخ المقاتل في مئة عام
Arab
2 hours ago
share

مع بلوغ المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي عامه المئة، تُفتح أمام القارئ المتابع للسياسة اليومية، والميل إلى ربط كل ما يجري بالماضي، نافذة يرى من خلالها حياة شخص تطابقت مع التاريخ ذاته، بالتوازي مع مادة بحثه واشتغاله، فيُطرح سؤال عمّا يمكن فصله بين الشخصي والعام، ما دام العمر كلّه قد مضى في سبيل كتابة الوقائع والبحث عنها وفي تفاصيلها.

حضور الخالدي بين القرّاء والدارسين والمهتمين بالتاريخ الفلسطيني يتجاوز الاحتفاء به كطقس تكريمي يذكر فيه من عملوا معه في مؤسسة الدراسات الفلسطينية أشياء عن علاقتهم به، كما فعلوا في الملحق الذي أصدرته المؤسسة عنه قبل أيام؛ ليصل إلى تأثيرات عمله في رؤيتنا للقضية الفلسطينية، والكمّ الهائل من الإلهام الذي منحته لنا الحيثيات التي بذل المؤرخ جهده وعمره في سبيل أن تتوفّر بين أيدينا.

وهكذا، تصبح صورة فلسطين الفردوسية نتاجاً لحياتها، وليست تفصيلًا متخيلاً؛ أي أن الصنيع الأكبر الذي يجدر بنا التوقف عنده يبدأ من كون تدوين التاريخ، وبالأسلوب الذي دأب الخالدي عليه، هو ما يجعلنا، بصفتنا منغمسين بالقضية وبعلاقة أزماتنا الوطنية والمحلية، نتمسّك بأمرين: أولهما أن ما نحكي عنه في حالة فلسطين لا علاقة له بالخيال، وليس ابناً له، ولا يمكن اعتباره تأويلًا لمدونات أسطورية غير مثبتة، كما هو حال الرواية الصهيونية التي دوّن الخالدي تفاصيل عن مؤتمرها الأول والمنابع التي استقت منها سرديّتها.

صاغ سردية علمية توثّق النكبة وتفكك الرواية الصهيونية

وثانيهما: عدم القدرة على الفصل بين المحلّي في المحيط الشامي، وبين ما جرى ويجري من تطوّرات كارثية لحقت بالقضية خلال عشرات السنين، كان المؤرخ يتابعها ويسجّل مؤدّياتها وفق منهج لم يكن مجرّد جمع للوقائع، بل بناءً صلباً لذاكرة لا تُمحى؛ حيث اعتمد على توثيق شامل يجمع الوثائق الأصلية، والخرائط، والصور، والشهادات الحيّة، ثم ذهب أبعد من ذلك، فقرأ أرشيف الخصم نفسه، الإسرائيلي والغربي، ليكشف تناقضاته من الداخل. 

في هذا كله، لم يكتب الخالدي سرداً محايداً بارداً، بل صياغة نقدية تجمع بين الدقة العلمية والالتزام الأخلاقي بقضية عادلة، مستنداً إلى العمل الميداني والتاريخ الشفوي الذي يعيد للأرض أسماءها ووجوه أهلها. فجاءت أعماله موسوعية ومرجعية، لا تنحصر في الماضي، بل تقاوم به الحاضر وتفتح باب المستقبل.

ولا أدلّ على ذلك من أن ثلاثة من مؤلفاته لا يمكن الاستغناء عنها في مطالعة السردية الفلسطينية الحقة، وهي: "من الملاذ إلى الغزو: قراءات في الصهيونية ومسألة فلسطين حتى سنة 1948" (1971)، و"قبل الشتات: التاريخ المصوّر للشعب الفلسطيني 1876 - 1948" (1987)، و"كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمّرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها" (1992). الخالدي، وكما هو معروف، ابن لحالة عائلية عاشت تاريخها ولأجيال في الفضاء الشامي العام، وليس في البيئة المحلية المحدودة، أي أن الصلة المعقودة التي نتحدث عنها تتجاوز الحيز الشخصي لتأخذ القارئ إلى حالة تفاعلية مغرقة في الجزئيات، حيث لكل شيء ما قبله وما بعده وصور وتأويلات يمكن أن نتصورها وفق الأسلوب الذي كتبت فيه المعمارية والروائية الفلسطينية سعاد العامري روايتها "دمشقي"! 

يُجسّد إرثه ذاكرة مقاومة تؤسس لوعي فلسطيني بالمستقبل

تأثير مؤلفات الخالدي باللغة الإنكليزية على تلقي القضية في الأوساط الأكاديمية الغربية واضح جداً، ويكاد يوازي ما صنعه عمله باللغة العربية. وهذا ما يسهب فيه كثير ممن عملوا معه وسجّلوا شهاداتهم عنه. لكنّ التراكم الذي لا يُرى في الأيام العادية يتحوّل إلى موجة عارمة في أوقات حرجة؛ إذ لا يمكن تصوّر أن معرفة الآخرين من غير العرب، ولا سيما الأميركيين والناطقين باللغات الأكثر انتشاراً كالإنكليزية والفرنسية والإسبانية بفلسطين، قد أُنجزت دون الدراسات التي وضعها خلال تجربته لتكون حاملاً معرفياً يؤسّس للموقف الأخلاقي الذي يجب أن يأخذه الأكاديمي، ومن خلفه الأوساط الثقافية والفنية والإعلامية، تجاه حدث يطلب من أفرادها أن يكون لهم موقفهم الصريح والمعلن.

لقد كسرت هذه الجهود احتكار السرد الصهيوني في الجامعات والمؤسسات البحثية الغربية، وأرست قواعد لمناهج أكاديمية تعتمد على النقد الدقيق والوثائقية المحصنة.  وهنا يمكن التوقف عند ما جرى في الجامعات الأميركية والأوروبية من نشاط سياسي تجاه الحرب الدموية الإجرامية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين الغزيين بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
هذا الترابط بين الاشتغال على التاريخ وبين يوميات الناس يجد مثاله الفصيح فيما دأب الخالدي على فعله دائماً، أي نقض و"دحض الادعاء الصهيوني المستمر حتى اليوم بأن فلسطين كانت صحراء، وأنهم جعلوها خضراء" بحسب قوله في تسجيل مرئي تحدث فيه عن تجربته في صناعة المؤلف المرجعي "قبل الشتات". 

وبالعودة إلى منهج الخالدي في أعماله، تتبدّى بين سطور التوثيق التاريخي رؤية فلسفية عميقة للزمن الفلسطيني؛ إذ يفكك النكبة لا بوصفها حادثاً تاريخيًا فحسب، بل صدمةً وجودية وأزمة مستمرة تُشكّل هوية الفلسطيني ومقاومته. وهو يدوّن على محور يعكس إحساساً بالعدالة المؤجلة، لا يرى فيه التاريخ مجرد مرآة للماضي أو نقطة توقف عند كارثة فقدان الوطن، بل مساراً نضالياً نحو المستقبل، تُكرَّس فيه قضية العودة حقاً جوهرياً غير قابل للنسيان. فكل جزئية لا تُهمل، بل تُضخ فيها الحياة، في محاكاة تستعيد رؤية والتر بنيامين للتاريخ كأنه "أنقاض يجب إحياؤها"، ومفهوم الذاكرة كمقاومة لدى إدوارد سعيد.

أما تفكيك السرديات الإسرائيلية من داخل أرشيفات الكيان، فكان جهداً بذله الخالدي عقوداً، حتى صار مقاتلاً معرفياً يستخدم البحث العلمي أداة مواجهة في فضاء الوعي الدولي. ولا يمكن فصل عمله مؤرخاً عن موقفه السياسي إزاء ما أفرزته التدخلات والأخطاء في سياق النضال الفلسطيني، وخصوصاً حق العودة. فهو لم ينخرط في اللعبة السياسية التقليدية، ولم يكن ناطقاً باسم جهة أو تنظيم، بل حافظ على مسافة نقدية منعته من التورط في تسويات قد تُضعف الموقف الفلسطيني. وقد عبّر عن ذلك في مواقفه من محطات مثل اتفاقية أوسلو، إذ انتقد التفريط الذي انطوت عليه، وتحفظ على ما اعتبره تنازلات، دون أن يتبنّى خطاباً شعاراتياً رافضًا بالمطلق، بل سعى إلى قراءة استراتيجية واقعية تحمي الحقوق الأساسية.


* كاتب وناقد سوري مقيم في فرنسا

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows