لن أشكّك بنيّات أحد، فنحن أولاد القرى، وحتى المدن، وفي تربيتنا، أنّ مجالس تقبّل العزاء مفتوحة الأبواب هي للجميع، حرفياً. كذلك فإنها غالباً ما تتحوّل الى أمكنة مواتية للمصالحات الصعبة بين متخاصمين. ففي حضرة الموت يتذكّر البشر هشاشة وجودهم، وحجمهم كذرة لا تُرى في هذا الكون العظيم، وإن كان البعض يستعرض حتى في مناسبات كهذه.
لن أشكّك، ولن أردّد عبارات الغاضبين من محبّي زياد الرحباني، عن أعداء فقيدنا الذين قالوا فيه شعراً، لكن في جنازته. ولن أشكّك بعواطف أحد أو أطعن بندم صادق أدرك أصحابه قيمة الراحل بعد رحيله، كما أدركوا أنهم، في أحيان كثيرة، تسبّبوا بتعزيز أسباب ذلك الرحيل المبكّر والمُفجع بالتعاون والتضامن مع أحوال وطنية وسياسية كثيرة.
كذلك فإني لست بوارد تفحّص نيّات الأشخاص الذين توافدوا للعزاء بزياد، إن كان ذلك حقاً، أو استعراضاً أمام شاشات البثّ المباشر. إن كان في منطقة الحمرا، حيث كان التشييع الشعبي والعاطفي، أو بكفيا، حيث كان العزاء الرسمي والعائلي، أو أيّ مكان آخر أقيم له فيه عزاء، في لبنان أو تونس إلى مصر وفلسطين. مع العلم أنّ بعض هؤلاء المعزّين لبنانياً، كانوا من أشدّ منتقديه، وأحياناً كارهيه، خصوصاً في المواقف السياسية، لدرجة محاربته، وأنا شاهدة كالكثيرين، إن كان في الإعلام أو في مصادر تمويل أعماله، أو محاولات التخويف وتشويه السمعة باستخدام الشارعين، الفني والسياسي، وحتى الأمني.
في حضرة الموت يتذكّر البشر هشاشة وجودهم، وحجمهم كذرة لا تُرى في هذا الكون العظيم
لكن الموت استباحة. وفي لبنان الموت مناسبة لاستباحة أشدّ، تصل إلى حدّ الوقاحة، خصوصاً إن كان الراحل شخصية عامة، بأهمية تأثير زياد الرحباني، عندها يصبح الإغراء كبيراً. فالرجل الذي لم يكن أحد يجرؤ على تقويله ما لا يريد قوله، لم يعد بيننا. ولم يعد يستطيع الخروج في مؤتمر صحافي أو بيان لتصويب أو نفي، وهذا ما شجّع على استباحة غيابه لاختراع مواقف، أو نسب تصريحات إليه، وترداد كلام مجتزأ قاله في سياق مختلف فتغيّر المراد منه بالكامل، وصولاً إلى تشهيد المتوفى على أحداث، أو التصريح بآراء شخصية على طريقة "لو كان زياد حياً لقال أو فعل كذا"!
فزياد اليوم ليس حيّاً. وإن أحببتم تخيّل ما قد يقوله، فليكن نوعاً من رياضة ذهنية تمارسونها في البيت ومع أصدقائكم، لإن أحداً منّا، وهذه ليست إهانة لنا ولا مديحاً لزياد، لن ينجح في تخيّل ما قد يفعله أو يقوله.
أليس هذا أصلاً سرّ فرادته؟ متى توقّع أحدنا ما الذي سيقوله زياد وأصاب؟ ألم يكن بالضبط مُذهلاً في هذه النقطة بالذات؟ في كيف يرى الأمور من موقع مختلف لا يخطر ببال أحد منا؟ في كونه رؤيوياً، تأتي رؤيويته من مدى فهمه السريع والمبكّر لبنية البلاد وأعطابها، واستيعابه (الموجع) لآليات تفكير اللبنانيين وأمراضهم الاجتماعية والسياسية، ومتابعته الدؤوبة لكلّ شؤوننا العامة؟
لن ينجح أحد في تخيّل ما قد يفعله أو يقوله زياد الرحباني
كان له دوماً رأي يُفاجئ بالزاوية التي ينظر منها إلى الأمور. هي زاويته المخترعة، إبداع عقله وروحه وتجاربه. لدرجة أنه حتى لو أخطأ، يبقى رأياً جديراً بالتأمّل، لأنّه من خارج التوقّع صادر عن خيال أوسع وأغنى.
زياد مات. لا يهتم الجسد، على ما أعتقد، بمصادرته جثةً من دون حياة. فليمارس أي إكليروس طقوسه وسلطته المستمدة من "سماء ما" على المتوفى الذي.. توفي. والجنازة والطقوس الدينية هي فعلياً لطمأنة الأحياء. لكن ما هو أخطر من استباحة الجثمان، استباحة اسم الشخص وتوقيعه وإرثه، خصوصاً حين تكون التركة بحجم تركة زياد.
هكذا، انتشرت فيديوهات تَنسب إليه أقوالاً ما أنزل الله بها من سلطان، لا بالركاكة اللغوية التي تحاول تقليد أسلوبه الساخر والفريد بفشل مهول، ولا بالمضمون المُبتذل الذي لا يشبهه مطلقاً، والذي طفق بعض الناس، المحبّين للرجل، يردّدونه كما لو أنّه كان حقيقة ثابتة.
وبغضّ النظر عن تحيّز زياد للمقاومة مهما كانت هُويّتها، فهو لم يلحّن نشيد "السيّد"، ولا قاد أوركسترا لتسجيل هذا العمل، بل من قام بذلك هو المايسترو إحسان المنذر. والراحل، وإن كان قد عبّر في مناسبات كثيرة عن احترامه للسيد حسن نصر الله، فهو لا شك لم يقل إن "الحياة بعد السيد جحيم عسل مسموم"، أو شيء بهذه الركاكة مضموناً ولغةً.
وزياد، وإن كان شيوعياً بالقناعة والفكر، كما صرّح هو بنفسه مرات عدّة، إلا أنّه لم ينتسب رسمياً إلى الحزب، وهذا ثابت، مع أنّه أراد ذلك. وهناك ورقة بخطه كتبها لأحد مسؤولي الحزب ينحو فيها باللائمة على قيادات نصحته بالبقاء حرّاً خارج التنظيم لمزيد من الفائدة.
هذا في الأكثر تداولاً منذ الوفاة. لكن، منذ وقت طويل، يجري تناقل فيديوهات مُجتزأة من مقابلات تلفزيونية مع زياد الرحباني أو حلقات إذاعية بصوته، كما لو كانت كلاماً مُكتملاً، مع أنها مُقتطعة من سياقها التاريخي أو السياسي، ولقد أضاف خبر الوفاة زخماً أكبر إلى انتشارها.
الثابت والوحيد لمحاربة استباحة الراحل، أن لا نتناقل إلا ما قاله هو وما تحدّث به هو، بالصوت والصورة
هذه الفيديوهات، وإن كانت غير مزيّفة، إلا أنّ اجتزاءها يزيّف مضمونها بتقديمه كما لو كان مُكتمل المعنى. كذلك إنّ تناقلها الواسع، بحالها هذا، في لحظة تأثّر عاطفي وألم جماعي لفقدان هذه القامة الاستثنائية، سيرسّخها في الوعي العام كمجرّد جمل متناثرة، محطات كلام من نوع الإيفيهات، أو حتى كنُكات، كما عنوَن أحدهم بخفّة قلّ نظيرها: "نكات زياد الرحباني". كما لو أنّ زياد الذي تعرفون ونعرف، ليس سوى نوع من "جحا"، أو "أبو العبد البيروتي" بطل النُكات المعروفة باسمه.
لذا، يبقى الثابت والوحيد لمحاربة استباحة الراحل، أن لا نتناقل إلا ما قاله هو وما تحدّث به هو، بالصوت والصورة، كما في مقابلاته التلفزيونية والإذاعية وفيديوهات حفلاته المتوفّرة، أو بالنصّ ذي المرجع المضمون، كما في كتاباته في جريدة "السفير" أو "الأخبار"، أو مقابلاته المنشورة في الصحافة المكتوبة، وهي متاحة للجميع، فكما كان هو يقول ببساطة بديهية: عندما يحضر الأصيل لا حاجة للوكيل.
هل يكفي هذا لحماية زياد؟ في حال التزامنا، أو بالأصح التزام الجمهور الواسع، قد يكون الأمر كافياً.
لكن ربما وجب التخوّف من محاولات، فاشلة ومثيرة للسخرية حتى اليوم، جرّبت تقليد وتوليد كلام بصوته أو صوت فيروز بواسطة الذكاء الاصطناعي. إلا أنّ تطوّر هذه التقنيات السريع معطوفاً على رغبات البعض في استخدام إرثه لكسب رأي عام أو استغلال نتاجه تجارياً، يمكن أن يكون مُقلقاً. مع أني أكاد أجزم بأنّ هذه التقنية ذات التسمية المُضلّلة، لن تستطيع توليد فكرة واحدة من أفكار زياد الرحباني.
لذا لنفكّر، إن كنا نحبّه وممتنين له، كيف نحميه من الاستباحة، كيف نحبّه أكثر في غيابه. فهذه الحماية، أقلّ ما قد نقدّمه ردّاً لجميله الفائق الروعة، والأثر الهائل وعصيّ الوصف، على حياتنا جميعاً.