
في بيوت أصحابنا الأكثر منا ستراً قرأنا في منادرهم الواسعة كتباً ما رأيناها من قبل، وصعدنا أسطحهم ومسكنا البلح وهو في سبائطه في سرور، ورأينا دواليب الملابس أول مرّة، نحن الذين كنا نركن ملابسنا فوق حبالٍ من الليف يبزق فوقها الحمام، ورأينا المصحف لأول مرة بجوار أعواد البخّور على كنبة الجدة العائدة من الحجاز.
كنا نخجل في الطرقات من أخوات أصدقائنا، حتى بعد ما تزوّجن في قرى بعيدة ونحن حصلنا على الشهادات الجامعية.
كان الصاحب شبه ذلك الكائن المقدّس أو يقترب من ذلك، وخاصة إذا كنا قد زرنا والدته وهي في المستشفى في أثناء عملية المصران الأعور، وكان زوجها يعمل في ليبيا مدرّساً أو مقاولاً، وتعتبرنا كأولادها وتفرش لنا في الشتاء الألحفة فوق الدكك، وتعد لنا الشاي ونحن نذاكر البراهين لنظريات الهندسة وتوقظ من نام منا فوق الدكك في الفجر قبل الامتحانات بساعات. فما الذي حدث؟ ربع قرن أخير أم نصف قرن، لا أعرف، قلب المعادلة رأساً على عقب، أم أشياء جديدة دخلت إلى هذا الصديق، أم أشياء دخيلة دخلت علينا نحن، كي لا نظهر أنفسنا كأطهار.
كنتُ أذهب إلى الغيط وأكسّر كيزان الذرة لبيت صديقي من حقلنا وأعود بها إلى بيت صديقي فرحانَ، وكأنها لنا، خصوصاً لو تناولتها مني ماجدة في أدب وارتباك يموت به كل كلام منها أو منّي، وظل ذلك حتى تمت خطبتها لنجّار في غاية الاحترام والأدب.
كان قد حكى لي فنان تشكيلي مات من سنوات أنه ذهب لزيارة صديقة في السبعينيات من القرن الماضي، بعد خروج ذلك الصديق من السجن، فرأى أخته تعتني به بلطف عجيب، وهو فصل من وظيفته، فشال الجميع؟ على حد تعبيره، الصديق وأخته وأمه إلى شقته سنواتٍ من دون أدنى إحساس بالفضل، فقد كان يقول "لقد شلّت عزوتي بحقّ، فقد كنت وحيداً وبائساً"، وما أحسّ بأي شيء عظيم سوى أداء الواجب فقط أمام صديقٍ دفع سنوات من عمره في السجن ظلماً، يحكي ذلك من دون أن يحسّ بأي فضل منه على صديقه، بل زاد أن الصديق وأخته وبيته، بعد ما صارت الأخت زوجته، قد زادوا بيته جمالاً وونساً، "وزادت إنسا نيتي في عين نفسي"، هكذا يقول. ... هل الأيام هي الباهتة أم نحن أم بهتت الصداقة نفسها تحت الشمس بعد هذه السنوات التي تنحت كالريح بسرعة في القيم وتعريها، أم نحن الذين تآكلت فينا القيم من الداخل، حتى وأن تدثّرنا بغلالات القيم كستار فقط لسلعة الأخلاق، أخلاقنا المتآكلة للأسف. أعرف أن الإنسان لا ينزل النهر مرّتين، ولكن في قدرته أن ينزل إلى الأخطاء، وفقاً لتبريراته، آلاف المرّات، وأن السماء هي نفسها معنا، والله هو نفسه معنا، والأصحاب هم أنفسهم، ولكن كيف ولدت فينا تلك الغمامة وتربت على عشائنا بكافة الحجج المعقول منها وغير المعقول.
الغريب أيضاً أن الأرزاق تزيد وتتسع والبيوت أيضاً ترتفع بما يسمى الأبراج وتزداد الملابس والأموال كذلك والأضواء، والصخب، والسيارات، والشرطة، والهواتف النقالة، والموضات، والأفراح والقاعات، وفجأة ترى سيارة محترقة أمام منزل، وذلك لأن صاحبها لم يعط لصاحبه السمسرة بعد الشراء، ويتم التصالح في مركز الشرطة ويظل الأصدقاء وتظل السمسرة.
كيف يستطيع الواحد أن يبني فوق جروح الصداقة طوابق أخرى من العلاقات الهشّة وتخرج الروح بعد ذلك سليمة أو على قدر من السواء اللازم لتكملة الرحلة تلك، بلا أمراض على الأقل أو ضغينة من الوجود الذي نحياه، ليس مع الصديق فقط أو العدو أو الجار أو السمسار أو اللص أو قاطع الطريق أو الذي خان كل ما يؤمن به، بل أحياناً مع الأهل والأولاد، أولادك؟
في النهاية، وهو المدهش في الأمر كله والمحير أيضاً، أن صديق المنافع يظل كما هو يلهث ويجري وراء المنفعة منذ كنّا نجمع الريحان في "قرية 2 للمهاجرين" في إجازة 1973، وكان أجر اليوم تلك القروش القليلة، حتى صار هو "كوتشاً" صغيراً لكرة القدم، درجة ثالثة أو رابعة لا أعرف، بعدد من دول الخليج، ويعود أيضاً بسيارات أحدث صيحة من الطرق الصحراوية لتلك البلاد، وفوق كل سيارة في السنوات الأخيرة أربعة أعلام مصرية ترفرف، وبجوار كل علم "تحيا مصر".

Related News

