استجبن في حرب الجبل
Arab
1 hour ago
share

مع انقلاب أديب الشيشكلي ضد سامي الحناوي عام 1949، خرج والدي العشريني من المعتقل، وأتمّ خدمته العسكرية في عهد الشيشكلي. ليس اكتشافاّ ولا سبقاً أنه في 1954، تحديداً في الشهر الأول منه، دخل أديب الشيشكلي إلى جبل العرب في محاولة منه لإخماد المعارضة الشعبية والسياسية المتصاعدة ضده، واستخدم الطيران في مواجهة مدينة صغيرة، حيث واجه مقاومة من القوى الوطنية والقيادات الدرزية الرافضة سياساته. ليس خافياً ما فعل وظل يفعل أديب الشيشكلي ورجاله حتى إطاحته، وبانقلاب شبيه. لست هنا بصدد استدعاء الماضي السوري، بتقلباته ومزاجيته وقتلاه. لا تهمني عبارات الخزي التي تسرّبت لوجداننا وتداولتها الجماعات اليوم  كل بحسب أهوائه ونياته، من قبيل "احذروا الجبلين". كل ما أردته من العودة إلى هذا الماضي هو تلك التهمة، أو ذلك الوسام، الذي لُصق بأبي ولازمه سنوات كونه "استَجْبَن في حرب الجبل".
سألته مرة: لمَ استجبنت في الحرب؟
فقال: "لم تكن حرباً. دخلنا إلى بيوت فيها نساء مرتاعات، أطفال يسكنون الزوايا، ورجال كبار في السن. كان عليّ أن أستجبن."  اختصر "الأستاذ ابراهيم" الفارق بين الشجاعة والقسوة. بين أن تكون جندياً متوحشاً أو إنساناً. بين الحرب دفاعاً عن شيء ذي قيمة، أو التورط في عبث الانتقام. اختار أبي أن يكون "جباناً" لأن الجبهة التي اقتيد إليها لم تكن جبهة قتال، بل مدينة مأهولة بأهل وأخوة لا أعداء.
لم تكن لي أُم تحكي عن "الأستاذ إبراهيم". وفي حياةٍ لم يكن فيها شيء نمطي يشبه باقي الأسر، استلم أبي أدواراً مغايرة: أم وأب، وأحياناً صديق لدود، أو جارة تراقب حياتي باهتمام غير مطلوب أو مرحب به. ومع كل هذا الجنون وتلك الفوضى، ربما من أمتع لحظات الصفاء بيننا كأسرة صغيرة حصاره، أنا وأخي، ليخبرنا عن ماضيه، فيبدأ وائل بجملته الشهيرة: "احكيلنا عن حياتك يا زلمة.. ما منعرف عنك شيْ". 
تتساقط من ذاكرته حكايات يقصها بتململ أحياناً، وبحذر أحياناً، وبندم دائماً، باستثناء مرة سألته فيها إن كان قد خجل من دخوله المعتقل، فانتفض قائلاً: "أخجل؟ شو أنا حرامي؟".
 اليوم، أسأل:
ما الذي يُخجل، يا سورية؟ وكَمْ واحداً منا استطاع، في هذه الحرب التي ليست حرباً، أن يستجبن بشجاعة؟ من نجا من التلوث ببركة الوحل؟ من لم يتورط في الخوف أو الصمت أو الإنكار من لم يُغوَ بحكاية البطولة القاتلة؟
نعلم تماماً أن لا نجاة في الحروب. على الجميع أن يتورط في مستنقعها، أن ينكسر، أن يحمل وصمةً ما. لكننا نعلم أيضاً أن في تاريخنا الحديث لم تهنأ سورية يوماً براحة بال، فلطالما أقلقتها الانقلابات بعد الاستقلال، وإن هدأت حياتها قليلاً، فبسبب البطش، وكلّابات القمع الفولاذية التي تغوّلت عبر فروع الأمن والاستخبارات، وحتى الفروع الحزبية ومنظماتها "الشعبية"، حاجبة نظم الدولة الحديثة عن ممارسة حياة سياسية إنسانية. لا رعباً مستفيضاً لطالما لاحقنا في النوم والصحو. 
في ظل هذا الخراب المتكرر، تظهر صورة أبي، اليافع حينها، واقفاً على باب بيت في السويداء، وقد قرر ألّا يطلق النار، ألا يُداهم، ألّا يُفزِع امرأة أو طفلاً. قرر ألّا يكون بطلاً. أدرك حين استجبن في وجه حربٍ أهلية أنه يكفر بالحرب لا بالله، ويصون بقية ضوء فيه.  
"استجبن"! يا لها من كلمة ساحرة وسط المذابح. ربما علينا أن نعيد اعتبارها، أن ننتشلها من قاع الشتيمة، ونضعها في مقام الحكمة. ربما نمنح الأحياء شرف النجاة من عار الشجاعة، ربما ننجو عندما تصير تهمتنا الدائمة: "استجبن في حروب العار".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows