الاقتصاد للدولة أم للمجتمع... حان وقت إعادة التموضع
Arab
2 hours ago
share

بعد أكثر من 65 عاماً من التجارب الاقتصادية التي تولّت فيها الدولة في سورية دور المنتج والمستثمر والمشغّل لقوة العمل، كان من الواجب الوقوف وقفة مراجعة عميقة. على الرغم من أن كثيرين يرون أن دور الدولة يجب أن ينحصر في التنظيم والرقابة، وضع التشريعات ومراقبة تنفيذها، من دون تدخّل مباشر. 

في ظل التغيرات الاقتصادية الكبيرة التي يشهدها العالم اليوم، أصبح من غير المجدي تقييد النقاشات حول السياسات الاقتصادية بإطار "اليسار" أو "اليمين"

لا تعني هذه المراجعة بالضرورة التخلي عن الدور المهم الذي يمكن أن تلعبه الدولة في ضمان تحقيق العدالة الاجتماعية وحماية الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع. إن المسؤولية الاجتماعية التي تتحملها الدولة لا تقتصر فقط على ضمان الأمنين، الداخلي والخارجي، بل تمتد إلى ضمان أن تكون الفرص الاقتصادية متاحة للجميع، وأن يجري توزيع الموارد بشكل عادل. على مرّ العقود، أثبتت الدولة أن لديها القدرة على توفير الخدمات الأساسية للمواطنين، سواء في التعليم أو الرعاية الصحية أو البنية التحتية، وهي مجالات يصعب على القطاع الخاص توفيرها بشكل عادل.
الواقع أن التحديات الاقتصادية التي تواجهها الدولة في بلدانٍ كثيرة، ومنها سورية، لا تعني أن دورها في الاقتصاد يجب أن ينحسر بشكل كامل. صحيحٌ أن من الأفضل للقطاع الخاص أن يكون المحرّك الأساسي للنمو الاقتصادي، ولكن من غير الممكن تجاهل الدور الحاسم الذي تلعبه الدولة في تأمين حاجات أساسية قد لا تكون مربحة بالمعايير التقليدية للقطاع الخاص. في ظل النمو غير المتوازن الذي قد يشهده السوق، لا ينبغي أن تدير الدولة الاقتصاد بشكل مباشر، بل يجب أن يكون لها دور في دعم القطاع الخاص، على أن يكون ذلك في إطار لا يؤثر سلباً على العدالة الاجتماعية ويضمن توزيع المنافع بشكل عادل بين جميع فئات المجتمع.
يقتضي هذا التوجه منا إعادة النظر في كيفية توزيع المسؤوليات بين القطاعين العام والخاص. إذ يمكن للدولة أن تضمن بيئة اقتصادية مناسبة تسهم في دعم المشاريع الخاصة، بينما تحمي الفئات الضعيفة من أي تأثيرات سلبية قد تطرأ جراء التغييرات الاقتصادية السريعة. وتبقى مشاركة الدولة فاعلة في الشأن الاقتصادي والتنموي، وخصوصاً فيما يتعلق بالمسائل التي تخص الأمن الوطني والخدمات العامة والبنية التحتية.

القضية ليست يساراً أو يميناً

في ظل التغيّرات الاقتصادية الكبيرة التي يشهدها العالم اليوم، أصبح من غير المجدي تقييد النقاشات حول السياسات الاقتصادية بإطار "اليسار" أو "اليمين". هذا التقسيم التقليدي لم يعد ذا صلة في اقتصادات العصر الحديث، التي باتت أكثر تعقيداً وتنوّعاً. على عكس ما قد يعتقده البعض، فإن الخيارات الاقتصادية اليوم تتجاوز هذه التصنيفات الأيديولوجية. وإن التركيز من قبل الفريق الاقتصادي الاستشاري الحكومي في سورية على هذه الثنائية قد لا يكون مفيداً في ظل التطورات المتسارعة في نظريات التنمية في العالم، حتى على أجندة المؤسّسات المالية الدولية الكبرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لم تعد تلك التصنيفات أولوية كما كانت في الماضي.
فبدلاً من التركيز على هذه الثنائيات، تتجه الأنظار نحو كيفية تحقيق استدامة اقتصادية تضمن النمو مع الحفاظ على العدالة الاجتماعية. من خلال هذه النظرة، تصبح القضية الأساس هي كيفية تحسين الأداء الاقتصادي دون الإضرار بالفئات الضعيفة أو تقويض الأمن الاجتماعي، وكيفية تنويع الاقتصاد وتعزيز التشاركية بدل المنافسة غير المنصفة التي كانت سائدة طوال السنوات الستين السابقة.

لا يمكن إغفال أهمية دور الدولة في الاستثمار في البنية التحتية والمشاريع الخدمية التي تُعدّ أساساً لتوفير بيئة اقتصادية مستدامة ورفاهية اجتماعية

لقد تعزّزت في هذا الإطار مقولات اقتصادية غير صحيحة: فإما أن تكون يساراً أو يميناً، أو أنك تخلق مصطلحاً يجمع بينهما بشكل توافقي، كما كان يُروَّج لمصطلح "اقتصاد السوق" على أنه أخذ بكل المفهومين ليخلق اتجاهاً مشوَّهاً بعيداً عن الواقع. والحقيقة أن ذلك غير صحيح، فاقتصاد السوق الاجتماعي الذي تبنّته الخطة الخمسية العاشرة يعكس هذا التنوع في المفاهيم والاتجاهات الفكرية الاقتصادية في العالم. اليوم، لم يعد الأمر يتلخص في اختيار بين سياسات يسارية أو يمينية، بل في البحث عن الحلول التي تتسم بالمرونة والقدرة على الاستجابة للواقع الجديد. تلك الحلول يجب أن تكون قائمة على التوازن بين الكفاءة الاقتصادية والحماية الاجتماعية، دون التمسك بالأيديولوجيات القديمة التي لم تعد متوافقة مع الاحتياجات المتجددة للعالم.

لا جدوى من لاعبٍ وحكمٍ في آن

أوافق على أن الحكومة يجب أن تركز على دورها في ضمان الأمنين الداخلي والخارجي، والقضاء على الفساد، وتوفير بيئة مناسبة للقطاع الخاص للنمو، بحيث تكون "حكم المباراة" الذي يراقب سير الأمور ويضمن العدالة في "اللعبة" الاقتصادية. ولكن هذا لا يعني أن الدولة يجب أن تتنصل من مسؤولياتها تجاه المواطنين في توفير الحقوق الاجتماعية الأساسية التي لا يمكن للقطاع الخاص أن يضمنها بشكل فعّال أو عادل.
من المهم أن نلاحظ أن هناك مجالات أساسية مثل التعليم الجيد والرعاية الصحية، لا يمكن أن تقتصر على القطاع الخاص وحده، خصوصاً في بيئات تتفاوت فيها القدرات الاقتصادية بشكل حاد. الدولة يجب أن تضمن للجميع، بغضّ النظر عن خلفياتهم الاقتصادية أو الاجتماعية، حقهم في الحصول على تعليم ملائم وخدمات صحية ذات جودة، لأن هذه الحقوق تساهم بشكل مباشر في تحسين مستوى الحياة وفتح فرص أكبر للتنقل الاجتماعي. في عالم يشهد تفاوتاً هائلاً في الثروات، تبقى الدولة الضامن الوحيد الذي يمكنه التوازن بين مصالح الفئات المختلفة وتوفير الفرص للجميع، خصوصاً الفئات الأكثر ضعفاً التي لا يستطيع القطاع الخاص أن يوليها اهتماماً كافياً.

علاوة على ذلك، لا يمكن إغفال أهمية دور الدولة في الاستثمار في البنية التحتية والمشاريع الخدمية التي تُعدّ أساساً لتوفير بيئة اقتصادية مستدامة ورفاهية اجتماعية، ففي حالاتٍ عديدة، يكون القطاع الخاص غير قادر أو غير راغب في الاستثمار في المناطق النائية أو الأحياء الفقيرة، حيث لا توجد جاذبية اقتصادية كافية. وهنا يأتي دور الدولة في دفع عجلة التنمية من خلال توفير استثمارات في هذه المناطق التي عادةً ما تُهمَّش في السوق الحر، ما يُسهم في تحقيق توازن اقتصادي بين مختلف المناطق، ويُساعد في تعزيز الفرص الاقتصادية في الأماكن التي يحتاج فيها السكان إلى أكثر من مجرد خدمات أساسية.
عندما تكون الدولة "لاعباً" في السوق، فإنها تدخل في منافسة غير متكافئة مع القطاع الخاص، تُضعف حوافز المبادرة، وتُدخل السياسة في الاقتصاد، وتقضي على مبدأ المحاسبة. المواطن يدفع الثمن في نهاية المطاف، سواء عبر الضرائب، أو عبر تدنّي جودة الخدمات، أو في شكل فرص مهدورة. لكن الدعوة اليوم إلى انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي المباشر ليست دعوة للتنصّل من المسؤولية الاجتماعية، بل هي دعوة لإعادة تعريفها. إذ لا يمكن ترك السوق بلا ضابط، ولا خصخصة دون عدالة، ولا تحرير دون حماية. فاقتصاد السوق بطبيعته لا يُنصف الجميع، وهو أداة فعّالة لتحقيق النمو، لكنه ليس وحده ضامناً للتكافؤ.

الخصخصة المنتقاة

عندما نتحدّث عن الخصخصة، لا نتحدّث بالضرورة عن عملية شاملة وجذرية تؤدّي إلى تفكيك كل ما تملكه الدولة. بل يمكن أن تكون الخصخصة خطوة مدروسة ومبنية على الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية، بحيث يتم اختيار القطاعات بعناية لتشجيع مشاركة القطاع الخاص في بعض المجالات، بينما تظل الدولة مسؤولة عن القطاعات الأخرى التي لا غنى عنها لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية.
في البداية، يجب أن ندرك أن الانتقال إلى نموذج مختلط يشمل القطاعين العام والخاص هو الخيار الأنسب لتحقيق كفاءة اقتصادية مع الحفاظ على العدالة الاجتماعية. وهنا يأتي دور مفهوم "الخصخصة المنتقاة"، الذي يعتمد على تحديد القطاعات الأكثر استفادة من خصخصتها، بحيث لا تؤثر هذه العملية سلباً على الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطنون.
تبدأ الخصخصة المنتقاة بتحديد القطاعات التي يمكن أن تحقق فيها المشاركة الخاصة قيمة حقيقية. في بعض الحالات، مثل التعليم والصحة والطاقة، تظل الدولة في وضع الإشراف الكامل لضمان أن تبقى هذه الخدمات في متناول الجميع، وبجودة عالية، وبتكلفة معقولة. أما في قطاعات أخرى، مثل السياحة والنقل أو الصناعات الخدمية، فبإمكان القطاع الخاص أن يلعب دوراً مهمّاً في تحسين الكفاءة ورفع مستوى الإنتاجية. لكن الخصخصة المنتقاة ليست مجرد تغيير من يمتلك الأصول، بل إنها تتطلب أيضاً وضع خطط لضمان حماية العاملين المتأثرين بالتحولات الاقتصادية. يجب على الحكومة أن تكون مستعدة لتقديم برامج تدريب وتطوير مهني لتحسين مهارات العمال وتزويدهم بفرص جديدة. كما يجب تخصيص دعم مالي مؤقت للعاملين الذين قد يتضرّرون في المرحلة الانتقالية، لضمان عدم فقدانهم لمصادر رزقهم بشكل مفاجئ. وهكذا، يصبح الانتقال إلى القطاع الخاص أمراً تدريجيّاً، ويجلب معه فرصاً جديدة بدلاً من أن يكون مصدراً للضرر.
من جانب آخر، لا يمكن أن تكون الخصخصة المنتقاة عملية مفيدة إذا لم تتم إدارة عوائد بيع الأصول بشكل صحيح، فالعوائد الناتجة من الخصخصة يجب أن تُستثمر بحكمة في مشاريع تنموية طويلة الأجل. مثلاً، يمكن توجيه هذه الأموال لتحسين البنية التحتية، وتعزيز الرعاية الصحية، ورفع جودة التعليم. تلك الاستثمارات ستُسهم في تعزيز النمو الاقتصادي وتوفير فرص عمل جديدة، مما يُعزز استدامة التأثير الإيجابي للخصخصة على المدى البعيد.
وإذا كانت هناك نقطة بالغة الأهمية، فهي ضرورة أن تتم عملية الخصخصة بشفافية تامة. يتطلب ذلك من الحكومة تقديم تقارير واضحة حول مراحل الخصخصة وكيفية تخصيص العوائد من بيع الأصول. تمنح الشفافية المواطن الثقة في أن هذه العملية ليست مجرّد وسيلة لتحقيق مكاسب اقتصادية على حساب حقوقه، بل هي عملية مدروسة تهدف إلى تحسين حياة الجميع.
لكن الخصخصة المنتقاة لا تعني أن الدولة ستتخلّى عن دورها التنظيمي. بل على العكس، يجب أن تستمر الحكومة في مراقبة السوق وتنظيمه لضمان وجود منافسة عادلة. إذ من خلال هذه الرقابة، تضمن الدولة حماية حقوق المستهلكين وضمان عدم استغلال القطاع الخاص لهم أو التأثير سلباً على السوق. تُعدّ هذه الرقابة ضرورية لضمان استثمار مستدام وتشجيع الابتكار، بما يُحسّن من جودة المنتجات والخدمات التي تقدّمها الأسواق.

إعادة التموضع في دور الدولة في الاقتصاد لا تعني تراجعها عن مسؤولياتها في ضمان العدالة الاجتماعية. بل على العكس!؟

حماية اجتماعية ذكية

لكي تكون عملية الخصخصة المنتقاة ناجحة، لا بد أن تصاحبها سياسة حماية اجتماعية شاملة وفعّالة تضمن حقوق المواطنين وتحميهم من الآثار السلبية التي قد تنجم عن التحولات الاقتصادية. فبينما يمكن أن تحقق الخصخصة فوائد عديدة من خلال تحسين الكفاءة الاقتصادية وزيادة الإنتاجية، فإنها قد تؤدّي أيضاً إلى فقدان بعض المواطنين لوظائفهم أو تعرّضهم لتقليصات في أجورهم. ومن هنا تأتي أهمية وجود شبكة أمان اجتماعي قوية تهدف إلى تقديم الدعم اللازم للفئات المتضررة.
يعد دعم العمال الذين سيتأثرون بالخصخصة من أولويات السياسة الاجتماعية، فإعادة تأهيل هؤلاء العمّال من خلال برامج تدريب مهني يشكل خطوة أساسية لتمكينهم من الانتقال إلى قطاعات جديدة، مما يتيح لهم فرصة الالتحاق بسوق العمل في مجالات مختلفة مثل التكنولوجيا الخضراء أو الطاقة المتجددة، التي تملك فرص نمو كبيرة. كما يجب أن تشمل هذه السياسة تقديم مساعدات مالية مؤقتة تتيح لهم التكيف مع التغيرات الاقتصادية، خاصة في الفترة الانتقالية حتى يتمكنوا من الحصول على وظائف جديدة.
لكن الدعم المالي وحده لا يكفي، بل ينبغي أن تُوجه عائدات الخصخصة إلى مشاريع تنموية تساهم في تحسين الحياة للمواطنين، مثل تعزيز البنية التحتية، وتطوير التعليم والرعاية الصحية. وبذلك، لا تقتصر عوائد الخصخصة على سد العجز المالي، بل يتم استثمارها في مشروعات تهدف إلى تحسين الظروف المعيشية وتوفير الفرص للجميع. كما يجب تخصيص جزء من هذه العائدات لإنشاء صناديق دعم اجتماعي تساعد في تقليص الفجوات الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، وتوفر دعما للفئات الأكثر ضعفا.

خلاصة

إعادة التموضع في دور الدولة في الاقتصاد لا تعني تراجعها عن مسؤولياتها في ضمان العدالة الاجتماعية. بل على العكس، يمكن للدولة أن تستفيد من القطاع الخاص في تحفيز النمو الاقتصادي، مع الحفاظ على دورها الأساسي ضامناً لتحقيق المساواة في الفرص. إن إفساح المجال للقطاع الخاص لتحمّل بعض الأعباء الاقتصادية لا يعني أن الدولة تتنصل من واجبها في تقديم الخدمات الأساسية التي تضمن رفاهية المواطن، مثل الصحة والتعليم، التي تشكل حقا لكل فرد في المجتمع.
من خلال تعزيز الخصخصة المنتقاة، يمكن للدولة أن تزيد من كفاءة القطاعات غير الاستراتيجية، لكنها يجب أن تظلّ الضامن الأساسي للقطاعات الاستراتيجية التي تؤثر بشكل مباشر على حياة المواطنين. على الدولة أن تبقى ركيزة أساسية لضمان عدم تركز الثروات في أيدي قلة، وتوفير فرص متكافئة للجميع في مجالات مثل التعليم والصحة والطاقة، حيث لا يستطيع القطاع الخاص بمفرده أن يلبي الاحتياجات العامة الأساسية بشكل عادل.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows