أيام النفي بعد أيام المنفى
Arab
2 hours ago
share

هي أيام سمتُها النفي، وهو غير المنفى. إذ سرعان ما انزلقت الحكومة السورية إلى منحدر لا قرار له، ودخلت دوامة "الـ "لاصحةً"، ونفي ما يقال عنها طوال اليوم. وصار معظم خيط التواصل بينها وبين الجهور يبدأ بهذه الكلمة الكارثية. 
فعلى مدار الساعة تقع حوادث، تنتشر أخبار، بعضها صحيح، وبعضها مزيّف، وبعضها صحيح يتم تضخيمه، ثم يبدأ الناس بالتناقل السريع لها، والتعليق المتصاعد عليها. يثور الرأي العام، يبدي حماساً شديداً للتفاعل مع أي حدثٍ عام، أو مع أي ترند، وكل حدث قابل ليصبح ترند. 
يقتل شاب في قسم للأمن، تسلّم جثّته لعائلته وعليها آثار تعذيب، يثور الرأي العام. يعتقل شاب آخر أمام كاميرا بطريقة تشبه أيام النظام البائد، يثور الرأي العام نفسه، تتكرّر حوادث قتل وإهانة وخطف في الساحل وفي مناطق متفرّقة. تنشر وكالة أنباء عالمية تحقيقاً عن طريقة إدارة الاقتصاد في المرحلة الانتقالية، فيه إشارات واضحة إلى شبهات فساد أو فوضى على الأقل. ترتفع المخاوف في السويداء من تجدّد الغزوة العشائرية عليها. تُعتقل صحافية شابة، يطلق سراحها، تصدر بحقها مذكرة اعتقال جديدة. ... وهكذا تتتالى الأحداث كبيرها وصغيرها، ويتفاعل الرأي العام معها بحماسة وهيجان نادرين. 
يحاول أولاً بعض المتحمسين الذين نذروا أنفسهم ليغووا إذا ما غوت غزية، و"يجاكروا" إذا ما رشدت غزية. يبرّرون، يلفقون، يشتمون، يهدّدون، وبالنتيجة يزيدون الطين بلّة، فتشعر الجهة الحكومية المعنية بأن عليها أن تفعل شيئاً لتطويق الأضرار. فتصدر بياناً، أو تخرج ناطقاً باسمها. وعادة ما يبدأ كلماته بالقول: لا صحة للأنباء التي.. وحتى لو لم يقلها حرفياً فهو يقول معناها بطريقة أو بأخرى. 
وهكذا يكاد كل ما تقوله السلطة يصبح نفياً لما يقال عنها، دفاعاً يائساً عن اتهامات توجه لها، ولمن يتصرفون باسمها، أو وعوداً لأشياء ومشاريع لن تحصل. 
سريعاً تطور الأمر ليصل إلى رد وزير الخارجية على سؤال في مؤتمر صحافي، أخذ مفردات السؤال بحرفيتها ليرد عليها بالـ"لا صحة" المعتادة، وبالطريقة المباشرة، لتخرج منه العبارة: لا نية لدينا لإبادة الدروز في السويداء. 
ولا أظنها جملة يمكن التعليق عليها، إلا إن كان الإنسان فرويدياً، ويريد تطبيق أدوات تحليله على عبارة قالها "سياسي". ولكنها دليل شديد الوضوح على ما يمكن أن تصل "اللاصحة" إليه. فهي منزلقٌ لم يسبق لأحد أن نجا منه، أو نجح في إيقافه، إلا بتقنية أسوأ منه، وبنتائج أكثر كارثية، وهي تقنية التجاهل، والتوقف حتى عن النفي. وهي عادة ما تجعل الأمور أكثر فداحةً. فالطريقة الصحيحة للخروج من هذا المأزق أن تعطي الناس شيئاً إيجابياً يتحدّثون عنه. وفي هذه الحالة، لا تنفع الوعود أيضاً، فهي ستفقد تأثيرها بعد وعدين أو ثلاثة. فكم سيحتاج الناس من الوقت ليعرفوا أن الشركة التي ستستثمر مليارات الدولارات في تحسين الكهرباء، لم ترسل دولارين؟ وأن المعامل الضخمة لم تقلع، والمدن لم تبن، والشهداء لم يعودوا، والمفقودين لم يظهروا، ومدينة السينما كانت فيلماً، ومنشآت إعمار الجبل صارت كشكاً؟ 
ما الحل إذاً؟... واقعياً، لا حل سوى تحسين طريقة النفي، والبحث عن إنجاز حقيقي ينقل السلطة من خانة الدفاع إلى خانة الهجوم، وإلا فسيكتشف أهل السلطة قريباً أن أيام المنفى كانت أهون عليهم بكثير من أيام النفي.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows