
تخيّل غرفةً مظلمةً فيها شخصٌ يرتجف من البرد، وآخرُ يرتجف من الخوف، وثالثٌ ينزف تحت سرير. ثمّ يدخل أحدهم ويصرخ: "أغلقوا تيك توك... القيم في خطر". يقول بعض "الأشرار" إن سرّ القبض على صانعي المحتوى في "تيك توك" في مصر ليس الحفاظ على قيم الأسرة المصرية، وإنما تورّط "التيكتوكرز" في أنشطة قوادة، ودعارة، وغسل أموال، وتجارة أعضاء. وحين سألتُ عن سبب إخفاء الدولة هذه الوقائع، أجاب أحدهم بأن غسّالة الأموال، وثلاجة الأعضاء، مملوكتان لأحد "الكبار"، ولو سقط فلن يسقط وحده. وأجاب آخر بأن نشاطات الدعارة تعتمد على تسريح فتيات دون السنّ، وهذه أعراض. وأضاف ثالث: ثمّة روايات أخرى، وأسماء تتردّد، مثل وفاء عامر، وإيمان الطوخي، وابنة حسني مبارك التي تشاركه ملامحه أكثر من علاء ولي الدين (الأب، والأم، والابن، والحفيد) في فيلم "الناظر".
لا أحد يعرف الحقيقة سوى الدولة، ولا أحد يحقّ له التحدّث عنها سوى الدولة، ولا وسيلة للتحقّق من الروايات، حتى الروايات المسرّبة من الدولة نفسها. ومن ثمّ، "لا حقيقة". وحين يصل الأمر إلى أن "أحكام القضاء والقانون" فيها قولان أو أكثر، فنحن أمام "اللادولة"، فالدولة بلا قانون غابة، والقانون بلا حسم عبث. القانون بيت الدولة، وأحكامه عنوان الحقيقة. وما يجعل القانون "حاسماً" ثقة المواطن قبل قوة الدولة، وما يجعله "حقيقيّاً" ثقة المواطن قبل الكتائب الإلكترونية، أو بالأحرى: من دونها. هذا هو "أمّا قبل" (استهلال رفعت السعيد الشهير)، أي البديهي، والمشترك، وموضع "سنّ البرجل"، والأرض الصلبة التي يقف عليها المتحاورون، لكي يصبح لحوارهم هدفاً، ولوجودهم معنى. وإلا فكيف نحافظ على "قيم الأسرة المصرية" من راقصة في "تيك توك"، بينما لا نحمي أطفالنا من الاتجار بأجسادهم؟ كيف نحاسب مراهقة على فيديو، بينما نغضّ الطرف عن غسّالات أموال وثلاجات أعضاء؟
هل أدهشك انحياز بعض الليبراليين والحقوقيين إلى حملة اعتقالات صنّاع المحتوى؟ لا يتعلّق الأمر بأنهم مزيَّفون فحسب، بل يتعلّق ابتداءً بغياب "أمّا قبل"، نتيجة غياب الدولة، وهو ما أوجد البيئة التي تستوعب كونك ليبراليّاً وحقوقيّاً، ومع ذلك تعلن بأريحية أنك داعم لانتهاك الحقوق والحرّيات.
هل انزعجت من تعليقات بعض "البشر" على أخبار الاتّجار في الأعضاء، بوصفها مادّةً للسخرية، والتشفّي، و"ها ها ها"؟ رغم أن تفاصيل الجريمة تنطوي على استغلال فقراء ومرضى وأطفال؟ لا يتعلّق الأمر بانعدام إنسانية المعلّقين فحسب، بل بغياب الدولة، وتحوّلها mafia state، نجحت في إفقاد المجتمع فاعليته التي تحرّكه نحو حقوقه، التي تراها الطغمة الحاكمة خطراً عليها. كانت تلك هي النتيجة الحتمية لخطة مواجهة الثورة: حيونة المجتمع، وتحويله قطعاناً ينهش بعضها بعضاً.
هل أربكك غياب مصدر موثوق لـ"معلومة" في موضوع يتعلّق بالقبض على مراهقين؟ لا يتعلّق الأمر بأن الدولة محافظة فحسب، أو بتورّط أحد "الكبار" فحسب، أو بالخوف على المواطن من صدمة الحقيقة (إن صحّت الروايات)، بل بغياب الدولة. فالدولة التي تخشى الحقيقة، وتستبدل العدالة بالستر، والقانون بالشائعة، والمساواة بالمحاباة، ليست دولة. بل كائن هلامي لا يمكن مساءلته، أو فهمه.
أمّا "اللادولة"، فوجودها واستمرارها مشروطان بتحوّل المجتمع "لا مجتمع"، والقانون "لا قانون"، والدستور "لا دستور"، والحريات "لا يجوز"، والبشر حيواناتٍ.
لا تشكّل "قيم الأسرة المصرية" مشكلةً في ذاتها. أهلاً وسهلاً. لكن: ما هي؟ ما مصدرها؟ من يحدّدها؟ وأيّ أسرة؟ ومن أيّ طبقة؟ وأيّ مصر؟ العربية؟ أم "إيجيبت" التائهة؟ وكيف تتحوّل هذه القيم (حال الاتفاق عليها) قوانينِ واضحةً، وملزمةً، ومطبّقةً على الجميع؟ يتساوى فيها سائق "التوك توك" بابن سيادة اللواء، وصانعة المحتوى بنجمة السينما؟
أين الدولة؟ ومن انتهك حدودها (القانون والدستور)؟ ومن باع أرضها (السياسة)؟ ومن فرّط في مقدّراتها (الخبز، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية)؟ من هنا نبدأ. أو، بالأحرى، من هنا يبدأ الأمل في بداية.

Related News
