
في 25 أكتوبر/تشرين الأول عام 1950 برزت أولى مداميك التحالف بين الصين وكوريا الشمالية عبر إرسال الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ، في سابقة تاريخية، جيشاً من المتطوعين للمشاركة في الحرب الكورية (1950 ـ 1953)، وذلك بعد أن تقدمت القوات الأميركية والكورية الجنوبية شمالاً، عابرةً خط العرض 38 الفاصل بين الكوريتين، ووصلت إلى الحدود الصينية الكورية، مما شكّل تهديداً خطيراً لأمن الصين. وخاضت الصين وكوريا الشمالية خمس معارك متتالية، قُتل في إحداها ماو آن ينغ، وهو ابن الزعيم الصيني ماو، وهذا التحرك الصيني دفع القوات الأميركية للتراجع من نهر يالو إلى محيط خط العرض 38. وبدأت فيما بعد مفاوضات الهدنة في يوليو/تموز 1951، قبل أن يوقّع طرفا الصراع بعد عامين ما يُعرف بـ"اتفاقية الهدنة العسكرية" لوضع حد لحرب دامية استمرت ثلاثة أعوام.
علاقات الصين وكوريا الشمالية
منذ ذلك الحين تشيد الصين وكوريا الشمالية بالعلاقات المتينة بينهما الموثقة بالدم. ولكن أخيراً شهدت العلاقات فتوراً كبيراً مع اتساع التباعد في وجهات النظر بشأن مقاربة كل طرف لملفات وقضايا شائكة، من بينها: نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية، والتهديدات المستمرة من كوريا الشمالية لجارتها الجنوبية ولليابان، وقد وصل الأمر إلى حد التلاسن والتراشق الإعلامي بينهما. واعتبرت وسائل إعلام صينية رسمية أن بيونغ يانغ لم تحفظ الجميل ولم تحترم التضحيات التي قدمها الجيش الصيني، في حين اعتبرت وسائل إعلام كورية أن التضحيات الصينية لا علاقة له بالذود عن الشعب الكوري الشمالي بل كانت مرتبطة بالدفاع عن مصالح بكين الخاصة، وأشارت إلى أن كوريا الشمالية تمثل ضمانة أمنية لحدود الصين الشمالية الشرقية. وبناء على ذلك ينبغي للقيادة الصينية أن تدرك هذه الحقيقة، وأن تتعامل مع جارتها الشمالية من منظور يراعي قيمة بيونغ يانغ وأهميتها الاستراتيجية والجيوسياسية بالنسبة لحفظ الأمن وضمان حالة التوازن والردع في المنطقة.
فيكتور وانغ: بيونغ يانغ حافظت دائماً على نظرة متشككة وحذرة تجاه بكين
وعن ذلك، قال الباحث في الشأن الكوري بجامعة تايبيه الوطنية فيكتور وانغ، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه على الرغم من عقود من الترويج الإعلامي المتبادل بين الصين وكوريا الشمالية لصداقة راسخة مدموغة بالدم، ودور الصين البارز في كسر الحصار المفروض على كوريا الشمالية باعتبارها أكبر مُقدِّم للمساعدات وشريان الحياة لملايين الكوريين، إلى جانب تدخّلها العسكري القوي في أوائل خمسينيات القرن الماضي، عندما خاض الجيش الصيني حرباً ضروساً للدفاع عن نظام كيم إيل سونغ، مُتكبدة خسائر فادحة، شهدت مقتل ماو آن ينغ، ابن ماو تسي تونغ، فإن بيونغ يانغ حافظت دائماً على نظرة متشككة وحذرة تجاه بكين، وقللت لسنوات من شأن التضحيات التي قدمها الجيش الصيني لإنقاذ نظامها، وربطت ذلك بمصالح وحسابات خاصة للحزب الشيوعي الصيني الحاكم.
وأضاف وانغ أنه منذ وصول كيم جونغ أون إلى السلطة خلفاً لوالده الراحل كيم جونغ إيل، عام 2011، تعززت العلاقات بين البلدين في ظل العداء المشترك للولايات المتحدة، وأصبحت أكثر تقارباً، وتخللت هذه الفترة من الانسجام التي امتدت حوالي عقد كامل، تكثيف الزيارات المتبادلة على مستوى القادة وكذلك المستوى الوزاري مقارنة بالسنوات السابقة. ولفت إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة مثّلت مفترق طرق بين الطرفين، وأظهرت التصدعات التي اعترت العلاقة بين بكين وبيونغ يانغ، موضحاً أن سبب ذلك كان تعزيز كوريا الشمالية علاقاتها مع روسيا، مما جعل الصين تشعر بالتهميش، وتجلّى ذلك في إرسال قوات كورية شمالية للمشاركة في الحرب الروسية، وهي خطوة أغضبت الصين، لأنها خشيت من ارتدادات عكسية قد تجرّ الحرب من شرق القارة الأوروبية إلى محيطها.
وأشار وانغ إلى زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية العام الماضي، والتي تخللها التوقيع على معاهدة الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين موسكو وبيونغ يانغ، وتنص المعاهدة على أنه في حالة تعرض أحد الطرفين المتعاقدين لهجوم من قبل قوة معادية، فإن الطرف الآخر ملزم بتقديم المساعدة. وأوضح وانغ أن التوقيع على معاهدة بهذا الحجم، يؤكد أن علاقة الصين وكوريا الشمالية ليست في أفضل حالاتها، ويشير إلى أن الفجوة بين البلدين تزداد اتساعاً في ظل التطورات والمستجدات الدولية.
من جهته، قال الأستاذ في مركز الدراسات السياسية في جامعة جينان، شياو لونغ، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه على الرغم من أن العام الماضي صادف الذكرى الـ75 لتأسيس العلاقات الدبلوماسية بين الصين وكوريا الشمالية فإن المناسبة مرت بصورة عابرة من دون أي زخم إعلامي أو احتفالي، كما أن زعيمي البلدين لم يعقدا أي لقاء مباشر منذ تفشي وباء كورونا في عام 2020، حين زار الرئيس الصيني شي جين بينغ، العاصمة الكورية الشمالية في عام 2019، والتقى هناك الزعيم كيم جونغ أون. وكانت هذه أول وآخر زيارة يقوم بها الرئيس الصيني شي للجارة الشمالية. وأضاف لونغ أن التعاون المتنامي بين بيونغ يانغ وموسكو منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، أثار أيضاً الكثير من علامات الاستفهام حول حقيقة العلاقات بين الصين وكوريا الشمالية أخيراً، وربما تكون قد وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1949. ولفت إلى أن الانتكاسة الأكبر للعلاقات الممتدة منذ أكثر من 75 عاماً، كانت عقب إطلاق الصين سياسة الإصلاح والانفتاح في عهد الزعيم الصيني الراحل دينغ شياو بينغ، في أواخر سبعينيات القرن الماضي، التي شهدت تقارباً صينياً مع الولايات المتحدة إلى جانب إقامة علاقات دبلوماسية بين الصين وكوريا الجنوبية، وهو الأمر الذي أغضب كوريا الشمالية، وقد شهدت تلك الفترة اتهامات صريحة ومباشرة من جانب بيونغ يانغ، للحزب الشيوعي الصيني، بالتنكر للقيم الاشتراكية والروابط المشتركة بين البلدين، مقابل التقارب مع القوى الرأسمالية.
شياو لونغ: لم يعقد زعيما البلدين لقاء منذ عام 2019
اتساع الفجوة بين بكين وبيونغ يانغ
واعتبر لونغ أنه في ظل التقلبات السياسية التي يشهدها العالم، خصوصاً مع عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السلطة في ولاية ثانية له، دخل البلدان في مرحلة جديدة لا يزالان يستكشفان فيها سبلاً جديدة للتفاعل بما يخدم المصالح المشتركة، ولكن الفجوة كبيرة بينهما بسبب مقارباتهما المختلفة وتباين الرؤى السياسية، وتحديداً ما يتعلق بملف السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية. وأضاف لونغ أنه هنا تبرز الحاجة لإدارة العلاقات بين الطرفين من منظور استراتيجي بعيداً عن الحسابات الشخصية، لأن المصلحة تقتضي أن تكون الصين وكوريا الشمالية على وفاق دائم، عدا ذلك ستكون المنطقة عرضة لاختراق من جهات معادية تقودها الولايات المتحدة، تحمل أجندات تهدف إلى زعزعة الأمن والاستقرار في محيط الصين. هذا وكانت وسائل إعلام صينية قد ذكرت أن بكين تريد الحفاظ على هامش من المرونة في علاقاتها مع جيرانها في إطار سعيها لتحقيق مصالحها الأمنية والاقتصادية في المنطقة. وفي هذا الصدد عقدت محادثات ثلاثية مع اليابان وكوريا الجنوبية في وقت سابق من هذا العام. وهو الأمر الذي أغضب بيونغ يانغ.
ولفتت تلك الوسائل إلى أن بكين تريد أيضاً الحفاظ على نفوذها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهي بحاجة إلى الاستقرار الإقليمي لتحقيق هذه الأهداف. ويأتي ذلك في وقت تُشكل فيه كوريا الشمالية عبئاً لا سيما مع تقارب بيونغ يانغ مع موسكو، مما يعزز من احتمالية انخراط نظام كيم جونغ أون، في أفعال عدائية من شأنها أن تزيد من حالة التوتر في المنطقة. يشار أن كوريا الشمالية واحدة من أوائل الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية مع الصين في السادس من أكتوبر/تشرين الأول عام 1949، أي بعد خمسة أيام فقط من إعلان تأسيس الجمهورية الشعبية في بكين. ومنذ ذلك الحين حافظ الجانبان على علاقات صداقة وتعاون تقليدية، مع تبادلات متكررة بين قادة الحزب والدولة في كلا البلدين، حين زار الزعيم الكوري الشمالي المؤسس كيم إيل سونغ، الصين عشرات المرات خلال حياته، كما زار قادة صينيون مثل تشو إن لاي، وليو شاو تشي، ودينغ شياو بينغ، كوريا الشمالية عدة مرات. وكانت الحرب الكورية التي انخرط فيها الجيشان الصيني والكوري الشمالي في خمسينيات القرن الماضي، واحدة من أبرز الملاحم البطولية التي يتغنى بها الطرفان، قبل أن تتحول هذه الصفحة المشرقة من تاريخ العلاقات الممتدة بينهما، إلى مساحة ومنصة لتبادل التهم والمزايدات السياسية.

Related News


