
مرّت خمس سنوات عجاف على انفجار مرفأ بيروت، اليوم الكارثي المشؤوم في 4 أغسطس/ آب 2020، الذي أزهق أرواح أكثر من مائتي شخص اختفوا من الحياة ومن منازلهم وأحلامهم، ومزّق قلب المدينة في جريمةٍ تبدّلت معها العاصمة. وما زالت العدالة غائبةً والمحاسبة مؤجلّةً، ومن دون أن تنجح الدولة بعد في كشف الحقيقة الكاملة، بينما تتقاذف المؤسّسات اللبنانية الاتهامات حول مصير التحقيق. وبات واضحاً ألّا قرارَ اتهامياً في الذكرى الخامسة بسبب محاولات مستمرّة لإفشال الملفّ ومنع المحاكمة عن طبقة سياسية - أمنية تجهد لتبرئة نفسها، وتكشف على نحو مقلقٍ تناقضاً صارخاً يُشلّ التحقيق، الذي انطلق على مهل بتعيين القاضيَين، فادي صوّان وطارق البيطار، وبقي القاسم المشترك بين المسارَين امتناع سياسيين وقضاة عن المثول أمام التحقيق.
لم يتمكن المحقّق العدلي، القاضي طارق البيطار، من ٳنجاز كلّ التحقيقات، والممتنعون عن المثول هم الوزيران السابقان، النائبان غازي زعيتر وعلي حسن خليل، والقاضي غسان عويدات، والاستنابات القضائية التي راسل بها دولاً عربيةً وأجنبيةً لم تصل أجوبتها حتى الآن، ليُعلن ختم التحقيق في المدّة الفاصلة عن نهاية العام. فيما يؤكّد مشكّكون أن الفترة ستطول ٳلى عام 2026، لأنه محاصر بنحو 42 دعوى مخاصمة جُمّدت لتكون حجّةً لإبطال التحقيق، والسبب سياسيٌّ أكثر منه قضائياً، ويؤثر سلباً في صدور القرار الظنّي، علماً أن البيطار تخطّى الدعاوى باجتهاد قانوني فرنسي أصدره، باعتبار أنه لا يُردّ ولا يمكن مخاصمته قانوناً، فاستمر يواصل تحقيقاته. ثمّ إن الهيئة الاتهامية التي تشكّلت منذ إبريل/ نيسان الماضي لبثّ الاستئناف المقدّم من القاضي منيف عويدات ضدّ البيطار في دعوى اغتصاب السلطة، لم تتسلّم الملفَّ بعد، ما يعني أن النيّة بالتعطيل ماضية، والقرار الظنّي ممنوع.
يشعر كثيرون من أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت بخيانة القضاء، ومنظومة كاملة تتواطأ بالصمت أو التعطيل على حساب المبادئ الجوهرية للعدالة
كثيرون من الأهالي يشعرون بخيانة، لا القضاء فقط، بل خيانة منظومة كاملة تتواطأ بالصمت أو التعطيل في معايير وحسابات مختلفة على حساب المبادئ الجوهرية للعدالة. وسيسجّل التاريخ أسماء من أمتنع عن المثول في جلسات التحقيق في أكبر انفجار هزّ الوطن، وحطّم أبناءه، في تذكارات الألم والخوف عند عائلات فقدت أجنحتها وفلذات أكبادها. مع ذلك، أبرزت العائلات القدرة على التنظيم للوصول ٳلى الحقيقة، وتحقيق العدالة إنصافاً في وجه منظومة إفلاتٍ من العقاب، تحمي نفسها بطريقة سياسية خاطئة، وتخاذل مؤسّساتي واضح، إذ كان يمكن للسلطة أن توفّر نظاماً للعدالة أكثر جديّةً وفاعليةً يمثّل بمضمونه الوقوف عند ٳرادة الناس المطلقة، ويخضع للقوانين الذي يصنعها. كان التصوّر هو الانسجام مع القانون الأخلاقي، وأن تتبع قضية المرفأ طريقاً مختلفة في مرحلة سياسية جديدة لحكومة يرأسها القاضي نوّاف سلام، وفي منظور ٳيجابي لما حملته زيارة رئيس الجمهورية جوزاف عون قصر العدل في بيروت، ووعوده بـ"أن تكون آلام الأهالي قوة دافعة لاتفاق عام ناجح على مفهوم تحقيق العدالة". تبقى المسألة مفتوحةً ومعلّقة على قدرة البيطار بأن ينجز ملفّه خطوةً أولى نحو كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين. لكن دون ذلك حسابات سياسية وتعقيدات ممنهجة تعرقل مسار الروزنامة المحدّدة لرفع القرار الظنّي إلى النيابة العامّة التمييزية، إذ تنجز مطالعتها في الأساس، لتردّه ٳلى قاضي التحقيق تمهيداً لختمه، ورفعه ٳلى المجلس العدليّ، فيصدر أحكامه المبرمة.
يعاني البيطار من فشل أنظمة التعاون لنجاح العدالة الإجرائية. يتوارى المسؤولون خلف الحصانات، والواضح أن القضية تخضع لضغوط الإلزام، مطالعات قانونية، مصالح أطراف متضاربة، أوزان، مسؤوليات عليا وصغرى، أوصلت التحقيق ٳلى مأزق صِدام، اشتباكات قضائية، وتهديدات أمنية في أن ينقل الملفّ الوضع الداخلي اللبناني، الهشّ بعد الجرائم الكبيرة والحروب والأزمات، ٳلى وضع جديد أكثر تعقيداً من "ملفّ حصر السلاح ".
لا صوت للضحايا إلا أصوات أمهاتهم وآبائهم وأحبّائهم، وصوت خطاب القسم للرئيس جوزاف عون، الذي جاء حافلاً بالتعهدات ببناء دولة القانون وتحرير استقلالية القضاء (خطاب آخر في عيد الجيش في 1 أغسطس). كلمات مطلوبة في بناء الدولة ومحاسبة الفاسدين، لكنها تصطدم بواقع يناقضها في العمق، فكيف يمكن التوفيق بين هذا الخطاب وأسئلة ممنوعة ومشروعة، يحقّ للرأي العام، ولأهالي الضحايا أن يطرحوها فيجاب عنها. وهنا يظهر التناقض، كيف يُرفع شعار العدالة، بينما التحقيق يُعرَقل، أو يُفرَمل؟
واجه المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار عراقيل جمّة، منها ما كان سياسياً، ومنها ما كان ناتجاً من خياراته الاستنسابية في استدعاء شخصياتٍ دون سواها. هذا الإجراء، وإن دلّ على شجاعته في مقاربة الملفّ من دون محظورات، إلا أنه أضعف موقعه القانوني، وفتح الباب أمام خصومه لتعطيل التحقيق من الداخل، وأحد أبرز تلك الأخطاء كان طلبه التحقيق مع المدّعي العام التمييزي نفسه، وهو الشخصية القضائية الأساسية المخوّلة تحريك الملفّ، ما أوجد اشتباكاً قضائياً - سياسياً، أُحبطت فيه العدالة، وتحوّل الملفّ رهينةً في نزاع صلاحيات، بدل أن يبقى سعياً لكشف الحقيقة. ورغم الإشادة بنزاهته وشجاعته، لم يكن معصوماً من الخطأ. فقد ارتكب (ولو بحسن نيّة) أخطاءً أضعفت موقفه القضائي، وفتحت الباب أمام خصومه للطعن في مسار التحقيق. وهكذا، بدل أن تُفتح الأبواب نحو القرار الظنّي، أُغلقت على مزيدٍ من التعقيد والانقسام، وضاع التحقيق بين نزاهة القاضي وواقع النظام. ورغم ذلك، لا بدّ من حماية أيّ قاضٍ لا يخضع للترهيب، لأن البديل هو الصمت الكامل.
احترام الدولة قانون استقلالية القضاء يعني أن تطاول يد القضاء شخصيات في أعلى الهرم السياسي أو الأمني
وإذا كانت الدولة جادّةً في احترام قانون استقلالية القضاء (أُقرّ في البرلمان أخيراً)، فعليها أن تبدأ أولاً بترك يد القضاء طليقةً، حتى لو طاول التحقيق شخصيات في أعلى الهرم السياسي أو الأمني. أمّا التذرّع بالحصانات، أو الاكتفاء بخطابات عامّة، فلن يعيد الثقة، ولن يُنهي الجرح، فالعدالة ليست شعاراً في خطاب، إنها اختبار يومي، فهل يجرؤ القضاء على قول الحقيقة ومواجهة استحقاقاتها؟... هذه الجملة تختصر جزءاً كبيراً من الإحباط الشعبي من أن يسمّى الفاعلون والمقصّرون والمتواطئون بأسمائهم، من دون لفّ أو مواربة، وأن تُرفع الحصانات عن كلّ من يُشتبه في دوره، من دون استثناء أي مسؤول مهما علا شأنه، وفي أن تُجرى محاكمات علنية وشفافة ونزيهة تُعيد الثقة بالقضاء. أي أن يشعر أهالي الضحايا بأن دماء أبنائهم لم تُهدر، وأن وجعهم لم يُستخدم ورقةَ ضغط أو مساومة، فالقرار الظنّي الذي طال انتظاره لا يصدر، ليس لأن الحقيقة غير معروفة، بل لأنه يُدين ربّما من هم في أعلى مراتبهم السياسية والأمنية، أو من سبق أن شغلوها. ولهذا، قد لا يُسمح له بأن يُبصر النور قريباً.
هكذا تتحوّل القضية مجرّد حادثٍ مؤسف، وذاكرةً لمن رحلوا بلا وداع. والأهالي يرفضون أن يُطوى الملفّ هكذا، على وعدٍ كاذب أو تسوية مُهينة، بعدالة مبتورة، أو بنهايات مُعلّبة. ومرّة أخرى، الأجيال اللبنانية أمام معايير وحسابات لا تتناسب مع فكرة نظام العدالة الطبيعي، أو مع قدراتهم الإنسانية في مواجهة روابط بعيدة منها. وبالتأكيد، لا يكفي ٳعلان الحداد الرسمي لتبقى الذاكرة حيّة، ولمّا يُؤسَّس لمستقبل مختلف في بيروت الغارقة في الصمت والوجوم.

Related News

