
تمثل أزمة الأنهار والبحيرات الملوثة في بريطانيا خطراً بيئياً وصحياً داهماً، وسط جدل بشأن الفساد الإداري وهيمنة مصالح الشركات، ما أدى إلى إلغاء هيئة تنظيم المياه، والمطالبة بجهاز رقابي مستقل، يُمنح صلاحيات شاملة للتدخل العاجل.
في خطوة وُصفت بالـ"حتمية"، أعلنت الحكومة البريطانية في 21 يوليو/تموز 2025 إلغاء هيئة تنظيم المياه "أوفوات"، بعد سلسلة فضائح واتهامات بشأن فشلها في كبح جماح شركات المياه التي أغرقت الأنهار البريطانية بملايين الساعات من تصريف مياه الصرف الصحي. وجاء القرار ضمن مراجعة كبرى قادها نائب محافظ بنك إنكلترا السابق، السير جون كونليف، وصف فيها النظام الحالي بأنه "منهار بالكامل"، داعياً إلى إنشاء جهة تنظيمية جديدة موحدة، أكثر صرامة وشفافية.
وقد سجّل العام 2024 وحده 3.6 ملايين ساعة من الانسكابات غير المعالجة في الأنهار البريطانية، مقارنة بـ100 ألف ساعة فقط في العام 2016، ما يشير إلى تضاعف الكارثة تحت إشراف "أوفوات" التي اكتفت بتقليص فواتير المستهلكين بدلاً من فرض الاستثمارات اللازمة على الشركات، بحسب شهادات مسؤولين سابقين. وعلّق أحد كبار الموظفين السابقين في "أوفوات" أن الهيئة "لم تشأ أن ترى الحقيقة" حول حجم ما يُصرف في الأنهار والبحيرات والبحار، رغم توفر الأموال داخل القطاع.
وأظهرت التحقيقات أن مجلس إدارة "أوفوات" يفتقر إلى الكفاءات البيئية، بل إن علاقته بهيئة البيئة البريطانية "مختلّة"، حيث لم يكن هناك أي تواصل فعلي أو تنسيق بين الجهتين، ما أدى إلى غياب الرقابة الميدانية. وقال مارتن هيرست، الذي شغل سابقاً منصب مدير سياسات المياه في رئاسة الحكومة، إن النظام برمّته فشل بسبب "سوء إدارة طويل الأمد"، وغياب الرؤية البيئية في مؤسسة خُصصت للرقابة المالية فقط.
لم يكن ضعف التنظيم هو الثغرة الوحيدة، بل إن ما سمّاه الخبراء بـ"دوامة التوظيف المغلقة" بين "أوفوات" وشركات المياه زاد من تعقيد الأزمة، حيث كشفت التقارير أن ثلثَي شركات المياه في إنكلترا وظّفت مسؤولين سابقين من "أوفوات"، ما جعل الهيئة عاجزة عن محاسبة الجهات التي تربطها بها علاقات مهنية وشخصية. ووصف كيفن غريشك من جامعة أوكسفورد، العلاقة بأنها "دوامة مرفوضة أخلاقياً"، وأكد أن العقوبات التي فرضتها "أوفوات" طوال عقود لم تكن سوى "نقود صغيرة" بالنسبة لأرباح الشركات الطائلة منذ خصخصة القطاع في العام 1989.
في وقت تدهورت فيه البنية التحتية، تبيّن أن كبار موظفي "أوفوات" أدرجوا عشرات الرحلات الجوية الدولية في سجلات المصروفات إلى كندا والدنمارك وهولندا وغيرها، ما أثار استياءً شعبياً واسعاً، خصوصاً أن الهيئة تُعنى فقط بقطاع المياه البريطاني. هذا إلى جانب المكافآت الضخمة التي حصل عليها مديرو الشركات رغم ارتفاع فواتير المستهلكين وتلوث الأنهار.
قرار إلغاء "أوفوات" لا يعني بالضرورة بداية جديدة، إذ حذّر خبراء وناشطون في بريطانيا من أن توحيد الهيئات التنظيمية (أوفوات، وكالة البيئة، ومفتشية مياه الشرب) تحت مظلة واحدة لا يكفي، ما لم يُمنح الجهاز الجديد صلاحيات شاملة وهيكلة مستقلة وخططاً استثمارية حقيقية. وأشار مارك لويد، الرئيس التنفيذي لمؤسسة "ذا ريفرز تراست"، إلى أن "الإصلاح الجذري منطقي، بيد أنه يجب تنفيذه بسرعة، من دون أن يتحول إلى مرحلة اضطراب طويلة الأمد".
وشددت روث تشامبرز، كبيرة مستشاري السياسات في مؤسسة التحالف الأخضر، على أن إنشاء جهة تنظيمية موحدة في بريطانيا قد يوفر نهجاً أكثر تكاملاً بين الجوانب البيئية والاقتصادية، لكنه يتطلب تحركاً سريعاً وإرادة تنفيذية واضحة. وقالت لـ"العربي الجديد": "ينبغي أن يتم تأسيس هذه الهيئة الجديدة على وجه السرعة، وأن تُجهّز بالأدوات والموارد اللازمة لمحاسبة الجهات الملوّثة". ودعت تشامبرز إلى أن تكون مسألة الوقاية من التلوث في صميم الإطار التنظيمي الجديد، لا مجرد بند شكلي، مشددة على ضرورة إعطاء الأولوية لإعادة إحياء الأنظمة البيئية المائية. وتابعت: "استعادة صحة الأنهار والبحيرات ليست أمراً ثانويّاً، بل مسألة أساسية تتعلق بالطبيعة وصحة الناس ومرونة المجتمعات في مواجهة التحديات".
لا تقتصر تداعيات تلوث الأنهار في بريطانيا على البيئة فحسب، بل تمتد إلى الصحة العامة مباشرة، ولا سيما في ظل استخدام المياه السطحية مصدراً أساسياً لمياه الشرب والأنشطة الترفيهية. وقد أبرزت بحوث مركز المملكة المتحدة للبيئة والهيدرولوجيا أن الازدهار الطحلبي السام (Cyanobacteria) الناتج عن ارتفاع مستويات الفوسفور والنيتروجين في المياه يشكل تهديداً حقيقياً للصحة العامة، من خلال التسبب في تهيجات جلدية واضطرابات في الجهاز الهضمي، وقد يؤدي إلى أضرار عصبية عند التعرض المزمن أو المكثف للسموم الطحلبية في المياه، سواء عن طريق السباحة أو ملامسة الجلد أو استنشاق الرذاذ في المناطق الملوثة.
في سياق متصل، كشفت دراسة أكاديمية أجرتها جامعة "كوينز" في بلفاست عام 2023 أن 80% من خلايا الطحالب في بحيرة "لوف نيغ" كانت من نوعيات قادرة على إنتاج سموم خطيرة مثل ميكروسيستين -LR، وقد تجاوزت مستوياتها التوجيهات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية بشأن جودة المياه المستخدمة في الأنشطة الترفيهية، ما يعزّز القلق من احتمال التعرض لتلف كبدي أو عصبي.
وكانت صحيفة التايمز البريطانية نقلت في يونيو/حزيران 2023 تحذيرات من تفشي هذه الطحالب السامّة في بحيرات مثل ويندرمير، مؤكدة قلق السكان والزوّار إزاء تكرار ظاهرة الازدهار الطحلبي وتأثير ذلك على السبّاحين.
وفي ظل هذه الوقائع، تمثل أزمة الأنهار والبحيرات الملوّثة خطراً صحياً بالغاً، لا يمكن إنكاره. وفي حين يستمر الجدل السياسي بشأن هيكلية الجهاز الرقابي، يتحدث البعض عن ضرورة لجوء الحكومة إلى إعادة النظر في أولوياتها، من أجل حماية صحة الإنسان، لما تمثله من محور أساسي لأي إصلاح مرتقب، ما يعيد المكانة الحقيقية للأنهار مورّداً للحياة لا مجرى للنفايات والصرف الصحي.

Related News




