انفجار مرفأ بيروت... عامٌ خامسٌ من الصراخ تحت الأنقاض
Arab
2 hours ago
share

يصارع جرحى ومعوّقو انفجار مرفأ بيروت من أجل البقاء، بعد أن فقدوا معنى الحياة، وأُجبروا على تحمّل الأوجاع وتكاليف العلاج الباهظة، وسط غياب تغطية صحية شاملة واستمرار عذابات ذويهم.

بينما يطوي انفجار مرفأ بيروت عامه الخامس، لا يزال الجرحى وعائلاتهم يئنّون تحت آلامٍ وجراح لم تعرف طريقها نحو التعافي، ولم تنته فصول عذاباتهم بعد. الانفجار الذي خلّف ما يقارب 243 ضحية ونحو 7 آلاف جريح، من ضمنهم ألف شخص تقريباً أصيبوا بإعاقات مؤقتة أو دائمة، وفقاً لمنصة "بيروت 607" (متخصّصة بتوثيق قصص ضحايا الانفجار)، لم يشهد بعد أي محاكمة عادلة تنصف أهالي الضحايا والجرحى والمصابين.

يبقى الرابع من أغسطس/آب 2020، تاريخاً أسود في ذاكرة اللبنانيين، ولعله أشد فظاعة في وجدان كل مصاب فقد شيئاً من ذاته لا يُعوض. وبينما يشكو المصابون وأهاليهم غياب الاهتمام الرسمي والتغطية الصحية الشاملة، برز أخيراً في الثامن من يوليو/تموز 2025 قرار لوزير الصحة العامة اللبناني، ركان ناصر الدين، يقضي بتغطية علاج جرحى الانفجار على نفقة الوزارة بنسبة 100%، وفق ما أعلنت اللجنة التأسيسية لتجمّع أهالي شهداء وجرحى ومتضرّري انفجار مرفأ بيروت، مع العلم أن الجرحى بمعظمهم تكبدوا تكاليف علاجهم طيلة هذه السنوات.

وأكدت لجنة الأهالي استعداد الوزارة لتأمين غيارات طبية (بروتيز) ومستلزمات علاجية ومساعدات خاصة، وكشفت أنها "بانتظار إقرار اقتراح القانون المعجل المكرّر الهادف إلى مساواة جرحى الانفجار بجرحى الجيش اللبناني".

خمس سنوات من العذاب والآلام ما زالت ترافق نجوى الحايك، والدة لارا التي ترقد منذ الانفجار في غيبوبة بمستشفى مركز بحنّس الطبي (جبل لبنان). لم تأمل يوماً تحقيق العدالة، لكنها تمسكت بعودة ابنتها الوحيدة إلى الحياة. تروي الحايك لـ"العربي الجديد" حجم المعاناة والتكاليف وسط غياب أي دعم رسمي، باستثناء أول شهرين من الانفجار، إلى جانب بعض المساعدات من جهات وجمعيات خيرية، في ظل أزمة خانقة منذ العام 2019.

وتسخر الوالدة المكلومة من القرار المتأخر لوزارة الصحة، وتسأل: "بماذا سيتكفلون؟ لنكبّر عقولنا، بالكاد يقدمون بضعة حبوب لوجع الرأس. في حين أضطر إلى دفع ألفَي دولار أميركي شهرياً لتسديد كلفة المستشفى، ومائتَي دولار أسبوعياً لشراء الحفاضات والأدوية ومواد التعقيم. تراكمت عليّ الديون، ولم نلقَ سوى الكلام، كوننا نعيش في بلد لا يمنح المواطن أيّ قيمة".

لم تدرك لارا المفعمة بالحياة، أن لحظاتٍ تفصلها عن غيبوبة قضت على أحلامها وطموحاتها، إذ كانت في منزلها بمنطقة الأشرفية (بيروت) عند الانفجار، وسبق أن هاتفتها والدتها من مكان عملها في منطقة الحمراء (بيروت)، لتُفجع الوالدة لاحقاً بإصابة ابنتها في الرأس، وتقول: "بالكاد وصلتُ إليها وسط الدمار والازدحام والمشاهد المروعة. بدأتُ بالصراخ وقصدنا مستشفيَين رفضا استقبالنا نتيجة الاكتظاظ. وصلنا إلى مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت، المشهد كان جنونياً وكأننا في مسلخٍ، وسط البكاء والعويل. تقيأت لارا لإصابتها بنزيف داخلي، وبدأت رحلة العذاب بعد أن دخلت في غيبوبة نتيجة التأخر في إنعاشها". بقيت عَينا لارا مفتوحتين، لكنها في عالمٍ آخر. ضعفت ووهن جسدها كثيراً، حتى باتت والدتها تشعر كأنها تزور شخصاً غريباً.

"لم أتخيل إطلاقاً أنها لن تصحو، لم يرغبوا بإبلاغي أنها بحُكم المتوفية"، تتابع الحايك: "قالها الطبيب: لارا لن تصحو إلّا بأعجوبة. حتّى إنه طلب مني الصلاة كي لا أصل إلى قرار الموت الرحيم. أُصبت بنوبات عصبية، عشتُ دوامة القهر بعد تلاشي الأمل. كانت لا تزال بعمر 42 سنة حينها، ضاع شبابها، وضاعت حياتنا". لم ترغب لارا بالهجرة، رغم أنها عملت في مصر والأردن وقبرص، كما أن مرض والدها خمس سنوات ووفاته قبل انفجار المرفأ بتسعة أشهر، جعلها تتمسك بالبقاء. وتتحدث عن عشق ابنتها للعلم والمعرفة، إذ كانت تتخصّص في الإرشاد الاجتماعي، وكانت تعلّم الأطفال ذوي الصعوبات التعلّمية، قبل أن تلتحق بمجال الموارد البشرية.

ترفض ميرنا حبّوش (40 عاماً) تسمية الرابع من أغسطس بالانفجار، وتقول لـ"العربي الجديد": "إنه تفجير أدى إلى خسارة عيني اليُمنى وفقدان النظر فيها، ناهيك عن إصابة يدي اليمنى وتمزّق الأوتار، وزجاج في اليد وكسور في إصبعين"، خضعت ميرنا منذ العام 2020 وحتّى العام 2022 لتسع عمليات جراحية ولم تنتهِ بعد من العلاج. تتابع: "منذ أسبوعين رممت الجفن، وكل شهر أو شهرين أزور الطبيب وتنتظرني عملية لقرنية العين، كوني بعد العملية السابقة اصطدمت بالرف عندما كنت أبدّل حفاض طفلي وسط الظلمة، نتيجة انقطاع الكهرباء، وخضعت ليلتها لعملية ترميم. حتّى إنني لم أتمكن من سحب القطب الجراحية (الغرز) بعد أن رفضت وزارة الصحة تغطية التكاليف، بحجة أنني مدرجة ضمن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، مع العلم أن تغطية الصندوق كانت شبه معدومة".

وتضيف حبّوش: "كل مرحلة العلاج كانت على نفقتي، باستثناء أول عملية للعين تكفلت بها شركة التأمين. والمضحك المبكي أن شركة التأمين ألزمتني بعد الحادثة بالتوقيع على ورقة تعفيهم من المسؤولية عن أي حادث يرتبط بالعين أو اليد، باعتبار أن الدولة هي المسؤولة". وعن القرار الأخير لوزارة الصحة، تؤكد أنه جاء متأخراً جداً، فالجرحى خضعوا للعلاج منذ زمن بعيد. وتسأل: "هل سيردّون ما دفعناه من مبالغ؟ هل سيدفعون كلفة قرنية العين التي تبلغ وحدها 3500 دولار أميركي. مع العلم أنني دفعت عام 2021 ثمن أول قرنية بلغ حينها ألفي دولار، أضف إلى أتعاب الطبيب وتكاليف المستشفى والأدوية. وفي العام 2020 اتصلت بوزارة الشؤون الاجتماعية للحصول على بطاقة المعوق الشخصية، غير أنهم أبلغوني أن عيناً واحدة لا تُعتبر إعاقة، إنما يجب أن أكون ضريرة لأحظى بتلك البطاقة".

تستذكر حبّوش أول عملية لإزالة الزجاج من عينها، إذ اكتفى مراقب وزارة الصحة حينها بالقول: "الحمد لله على السلامة"، وتضيف: "لم تغطِ الوزارة كلفة عملية أوتار اليد، ودفعتُ فروقات الضمان، وبقيت زجاجة يستحيل إخراجها، ولا خيار سوى تحمل وجعها. اضطررت إلى تلقي 33 جلسة علاج فيزيائي، وما زالت المعاناة ترافقني، خصوصاً أنني أعمل محاسبة، أرتكب الأخطاء وأعيد الحساب أكثر من مرة. أغلقت باب السيارة مرتين على يد طفلي، سمعت الكلام الجارح حول مظهر عيني، دستُ بالخطأ على ابني، وكان حينها لا يتجاوز السنة ونصف السنة، وتسببت بإصابته في رأسه. تعرضت لثلاثة حوادث سير رغم وجود ثلاث كاميرات في السيارة. لم أعد قادرة على القيادة ليلاً، حُرمت من هواية الرسم، وحتى من تقطيع الطعام، يدي تؤلمني وعين واحدة لا تعينني".

ميرنا، التي تدمّر منزلها بمنطقة الكرنتينا المواجهة للمرفأ، توضح أنها لم تعد تغلق الأبواب والنوافذ كلياً، ولو في عز العواصف. وتشير إلى أنها كانت رفقة طفلها الوحيد يوم الانفجار، تتجه لشراء الحليب الخاص بحالته الصحية، قبل أن تجد نفسها مصابة تدوس على الأشلاء والزجاج، وسط صراخ ابنها كريس الذي ما زالت الندوب على رقبته ووجهه، ولحق الضرر بجزء من أذنه، وتقول: "لليوم يخضع كريس للعلاج النفسي كونه يعاني من صدمة وانطوائية وعصبية وغضب، علماً أنه بقي ثلاثة أشهر بعد الانفجار لا يجرؤ على الاقتراب مني. وفي الحضانة، أبلغوني أنه يحاول إيذاء الأطفال في عيونهم، فطلبت مني طبيبتي النفسية أن أتوقف عن تغطية عيني. وفي الحرب الإسرائيلية الأخيرة، كنّا نختبئ تحت الطاولة، على وقع بكائه وصراخه".

صار عمر كريس ستّ سنوات، وما زال أهالي الضحايا والجرحى يبحثون عن الحقيقة والعدالة. لم تعد تحلم ميرنا سوى بحياة كريمة لابنها، لا يقاسي فيها الفساد والظلم والحروب والتفجيرات، وتقول: "لا ذنب لهم، خُلقوا من أجل الحياة، ولا ذنب لنا، لم نكن نحمل سلاحاً. نريد حقنا، نتوق للعدالة ومحاسبة المجرمين".

وفي اتصال لـ"العربي الجديد"، يؤكد مدير العناية الطبية في وزارة الصحة العامة اللبنانية، الدكتور جوزيف الحلو، أن "الوزارة تكفلت بعلاج كل الجرحى والمصابين 100%، باستثناء المدرجين ضمن جهات ضامنة أخرى. وسبق وطالبتُ بتخصيص صندوق لمتابعة علاج الجرحى، ولو حصل لكان وفّر عليهم المعاناة، ناهيك عمّا كانت تعانيه الوزارة من موازنة صفر في ظل الأزمة المالية".

احتفل عصام عطا بعيد ميلاده الـ35 بعد أن تغيّرت حياته بأكملها، وهو الذي أصيبت ساقه بتلف شديد بالأعصاب وخسر منزله ومطعمه نتيجة الانفجار، ويقول لـ"العربي الجديد": "لم أعد قادراً على الوقوف أو المشي لأكثر من دقائق معدودة، ولا حتى العمل. أواجه مصاعب عديدة، إضافة إلى ذلك حالتي النفسية والمعنوية. حتى إن قدمي الأخرى باتت تؤلمني لاعتمادي عليها كثيراً. خضعت لأول عملية جراحية في لبنان، أما العملية الثانية فكانت في الولايات المتحدة الأميركية أواخر العام 2021، كونها غير متوفرة في لبنان، ولو توفرت ستكون كلفتها مرتفعة، وما أسعفني هو أنني أحمل الجنسية الأميركية. عدتُ إلى لبنان عام 2024 لأنني أطمح للاستقرار في وطني، وكنت قبل الانفجار جدّدت منزلي في منطقة الرميل (بيروت)، واستغرق الأمر أربعة أعوام. افتتحتُ عام 2019 مطعماً، وفي اليوم ذاته انطلقت الانتفاضة الشعبية في 17 أكتوبر/تشرين الأول، ومن ثم جائحة "كوفيد – 19"، قبل أن يطيح الانفجار كلَّ شيء".

عصام الذي أنهى تخصّص تكنولوجيا المعلومات في الولايات المتحدة، يتمسك بالبقاء في لبنان والمطالبة بالعدالة وحقوقه المهدورة، ويضيف: "لن نترك الحقيقة خلفنا، فقد أصبحت عاجزاً عن ممارسة عملي أو هواياتي من المشي والتخييم وكرة السلة، تُركنا لمعاناتنا وأوجاعنا ولم يلتفت إلينا أحد. إعاقاتنا دائمة تتطلب الأدوية والعمليات والعلاجات الفيزيائية والنفسية، وكل ما قدمته الدولة لي هو بطاقة الشخص المعوّق التي لا تجدي نفعاً، كون القانون 220/2000 المعني بحقوق الأشخاص المعوّقين، يحتاج إلى تعديلات ليوفر تغطية صحية شاملة ورواتب شهرية، أسوة بجرحى الجيش". وعن قرار وزارة الصحة، يوضح عطا أنه يغطي فقط الحالات الطارئة، بحسب ما أبلغوه، ومَن هو بحاجة للغيارات الطبية.

أما شقيقته هيلين (44 عاماً) فتتحسّر على حال أخيها الذي صار انطوائياً، وتروي معاناتها إثر فقدان شقيقها التوأم عبدو، وتقول لـ"العربي الجديد": "عبدو قطعة مني، قضينا كل أيامنا معاً، في أعياد ميلادنا وعلى مقاعد الدراسة، كان كريماً وحنوناً ومرحاً، لم يتمكن من النجاة. أما عصام فبقي 17 ساعة تحت الأنقاض، سمعوا صوته يصرخ. واليوم بعد خمس سنوات، لم يتغيّر شيء، ما زلنا خارج منازلنا في بيروت من دون أي تعويض، لم يُسجن ولم يحاسب أحد، رغم أن الرابع من أغسطس ليس حدثاً عابراً، إنما جريمة لا تُغتفر".

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows