
تتصاعد الاتهامات بشأن الدور الذي تلعبه شركة "ميتا" المالكة لـ"فيسبوك" و"إنستغرام" في تسهيل الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، سواء من خلال الرقابة التمييزية على المحتوى، أو الترويج لإعلانات مرتبطة بعمليات عسكرية، أو عبر توظيف عناصر من خلفيات عسكرية إسرائيلية ضمن مناصب حساسة في الشركة. أحدث هذه القضايا تتعلق باستضافة "فيسبوك" منشورات تطلب توظيف سائقي جرافات للمشاركة في هدم المباني داخل قطاع غزة، حيث تنفذ إسرائيل منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 عملية إبادة جماعية بحق الفلسطينيين.
خلال الأشهر الماضية، نُشرت أكثر من عشرة إعلانات عبر "فيسبوك" تعرض أجوراً تصل إلى ثلاثة آلاف شيكل يومياً (نحو 880 دولاراً)، لتوظيف مشغلي جرافات يشاركون في عمليات هدم ينفذها الجيش الإسرائيلي. الإعلانات ظهرت في صفحات عامة مخصصة لهذا النوع من العمل، ما يعكس كيف تحولت المنصات الرقمية إلى أدوات تقنية تُستخدم مباشرة في الحروب.
في حديثه للكاتبة في صحيفة ذا غارديان البريطانية، أروى مهداوي، وصف المؤرخ الإسرائيلي–الأميركي عمر بارتوف، وهو من أبرز الخبراء في دراسات الإبادة الجماعية، ما يحدث في غزة بأنه "غير مسبوق في القرن الحادي والعشرين"، مشيراً إلى أن نحو 70% من البنية التحتية المدنية إما مدمرة أو متضررة بشكل بالغ، بفعل استخدام جرافات "دي9" أميركية الصنع. واعتبر أن "الجيش الإسرائيلي لا يخوض حرباً، بل يهدم غزة بالكامل".
جزء من هذه العمليات أوكل إلى مدنيين من خلال تعهيد (outsourcing) واضح عبر الإعلانات المنشورة على "فيسبوك". البروفيسور نيف غوردون، المتخصص في القانون الدولي وحقوق الإنسان، وصف هذه الظاهرة بأنها "مكون من مشروع إبادي"، محذّراً من أن "إعلانات التوظيف لأعمال الهدم قد تشكل تسهيلاً مباشراً لارتكاب جرائم حرب". وأضاف غوردون، لمهداوي، أن "فيسبوك" لا تكتفي بنشر الإعلانات، بل استضافت محتوى لشخصيات مثل الحاخام أفراهام زاربيب الذي يروّج للهدم باستخدام الجرافات بكونها وسيلةً "أكثر أماناً للإسرائيليين"، ويصوّرها على أنها تطور استراتيجي في "الحرب الحديثة". وعلى الرغم من أن أحد فيديوهاته أُزيل بعد التبليغ عنه، فإن منشورات أخرى مشابهة لا تزال متاحة. من جانبه، قال أستاذ القانون، جون رينولدز، إن نشر هذه الإعلانات والمحتوى الترويجي "قد يرقى إلى ترويج مباشر لجرائم حرب، أو دعاية حربية، أو خرق للواجب القانوني في منع الإبادة الجماعية".
وأكد غوردون أن "التذرّع بوجود أنفاق تحت المنازل لا يبرر التدمير الشامل لأحياء بأكملها"، خصوصاً أن إسرائيل تمنع التحقيقات المستقلة التي من شأنها التحقق من هذه الادعاءات. أما الهدف النهائي من هذه العمليات، بحسب بارتوف، فهو "تدمير نحو 75% من مساحة القطاع، ونقل السكان قسراً إلى منطقة صغيرة في العراء جنوباً، في ما يشبه التهجير المنظم".
رقابة خوارزمية على الرواية الفلسطينية
إلى جانب التورط في تسويق العمليات العسكرية، تواجه "ميتا" اتهامات خطيرة بالتحيّز ضد المحتوى الفلسطيني، عبر فرض سياسات رقابية تقوّض الحق في حرية التعبير، وهو حق أساسي مكفول بموجب المادة الـ19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. كذلك تؤكد المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، أن على الشركات "احترام حقوق الإنسان وتجنب الإضرار بها أو التسبب في انتهاكها". تقارير من منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" ومركز حملة وثّقت عدداً من الأساليب التي تنتهجها "ميتا" ضد المحتوى الفلسطيني، منها: حذف المنشورات التي توثق الانتهاكات الإسرائيلية أو تنقل وقائع ميدانية، وإغلاق الحسابات من دون مبررات واضحة، منها حسابات صحافيين وناشطين فلسطينيين، والرقابة الخفية (Shadow Banning) التي تقلل من وصول المنشورات من دون إشعار المستخدمين، والاعتماد على خوارزميات غير دقيقة، تقود إلى حذف محتوى مشروع بحجة مخالفته للسياسات، وازدواجية المعايير في تطبيق السياسات، حيث يُسمح بمحتوى محرض ضد الفلسطينيين من دون قيود مشابهة، والتقاعس في الرد على شكاوى المستخدمين الفلسطينيين أو تأخير البتّ فيها.
وفي ديسمبر/ كانون الأول 2023، قالت المديرة بالإنابة لقسم التكنولوجيا وحقوق الإنسان في "هيومن رايتس ووتش"، ديبرا براون، إن "رقابة ميتا على المحتوى الداعم لفلسطين تزيد الأمور سوءاً مع الفظائع وأشكال القمع المروّعة التي تخنق أصلاً تعبير الفلسطينيين. وسائل التواصل الاجتماعي منصاتٌ أساسية تتيح للناس أن يشهدوا على الانتهاكات ويعبّروا عن رفضهم إياها، إلا إن رقابة ميتا تفاقم محو معاناة الفلسطينيين".
ترويج للمستوطنات
لم يتوقف دور "ميتا" عند التضييق الرقمي، بل شمل التربّح من الاحتلال الإسرائيلي عبر استضافة إعلانات تجارية لمشاريع بناء في المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية والقدس الشرقية. هذا السلوك يمثل خرقاً واضحاً لاتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر نقل قوة الاحتلال سكانها المدنيين إلى الأراضي المحتلة. تعتبر المحكمة الجنائية الدولية مثل هذه المشاريع جرائم حرب، وبالتالي فإن قبول "ميتا" بالإعلانات الخاصة بها يُعد مساهمة في تمويل أو ترويج نشاط غير قانوني وفقاً للقانون الدولي.
خلفيات عسكرية إسرائيلية داخل "ميتا"
من أبرز المؤشرات على انحياز المنصة وتواطئها مع الرواية الإسرائيلية، وجود أكثر من مائة موظف في "ميتا" من خلفيات عسكرية إسرائيلية، بحسب تحقيق استقصائي نشره موقع The Grayzone في إبريل/ نيسان الماضي. بعضهم خدم في وحدات استخباراتية مثل "الوحدة 8200"، ويعمل اليوم في أقسام إدارة المحتوى وتطوير الذكاء الاصطناعي داخل مكاتب الشركة في تل أبيب والولايات المتحدة. من أبرزهم شيرا أندرسون، رئيسة سياسات الذكاء الاصطناعي في "ميتا"، وهي محامية أميركية تطوعت في الجيش الإسرائيلي عبر برنامج "غارين تسابار"، وخدمت في قسم الاستخبارات العسكرية، حيث أعدّت تقارير دعائية وتولت التنسيق مع الصليب الأحمر والبعثات الدولية. أندرسون، التي سبق أن أنكرت وجود إبادة جماعية في غزة، تتحكم حالياً في السياسات التي تحدد كيفية تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي في "ميتا"، بما يشمل الخوارزميات المسؤولة عن تصنيف المحتوى وتقييده.
ومن الأسماء الأخرى غاي شينكرمان الذي خدم 10 سنوات في الوحدة 8200، والتحق بـ"ميتا" عام 2022، وميكي روتشيلد الذي قاد وحدة صواريخ إسرائيلية خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وماكسيم شموكلر الذي عمل 6 سنوات في الاستخبارات الإسرائيلية قبل الانضمام إلى "ميتا". هذه الخلفيات أثارت أسئلة جدية عن مدى تأثير التوجهات العسكرية الإسرائيلية في سياسات الرقابة الرقمية في الشركة، خصوصاً في ظل أنشطة مثل اختراق المجموعات الرقمية، أو جمع البيانات لأغراض أمنية.
هل تُساءل الشركات الرقمية دولياً؟
هل تتحمل شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل "ميتا"، مسؤولية قانونية في أوقات الحروب والإبادات الجماعية؟ وما الحدود التي تفصل بين استضافة المحتوى والخضوع للمحاسبة الدولية؟ بحسب خبراء في القانون الدولي، إن التسهيل أو التحريض أو التربح من جرائم حرب قد يضع هذه الشركات تحت طائلة القانون، ويجعلها عرضة للملاحقة أمام هيئات دولية، خصوصاً في ظل عدم وجود محاسبة داخلية فعالة أو مراجعة مستقلة لسياساتها. وفيما تغرق غزة في دمارها، يواصل وادي السيليكون بناء أدوات رقمية تموّل القتل وتشجع على ارتكابه، تحت ستار "الحياد التكنولوجي".

Related News
