
تبدو رواية "هَرّ غليل" للكاتب السعودي محمد ذيب الحميداني، الصادرة عن دار التنوير، لأول وهلة رواية عن الحياة العادية، بل يسعنا القول إنها مفرطة في عاديتها، إلى درجة تكاد مأساويتها أن تبدو باهتة وسطحية. هذه، من البداية إلى النهاية، هي خطاطة التهافت الذي لا يني يتفاقم فصلًا بعد فصل. هنا، تقابل العادية واقعاً متردياً باستمرار، ليس فيه سوى البؤس الذي يلازم معيشة الطبقات الدنيا، ويطبعها بخسارة فوق خسارة، ونقصان وراء نقصان.
لا نعرف مدى حقيقية "هَرّ غليل" وقربه من الواقع؛ فحياته تكاد تكون له وحده. من يشاركونه إياها ليست لهم حياة خاصة، إلا بقدر مرورهم في سيرته، وكيف يبدون مقابله. وجودهم يتجلى بإزائه، وتقريباً بالقياس إليه؛ فيما عداه، الآخرون مجرد عابرين. الرواية هي فقط مسار حياته، حياته التي تمضي وتتلاحق وتتتابع حدثاً على حدث، وهو يجتازها وينتقل فيها، من دون أن يكون له حظ في أن يختارها أو يتحكم فيها، أو يؤسس داخلها حضوراً عضوياً أو مغامرة خاصة. الرواية هي معاشه وعمره ووقائعه، لكنه، حتى هنا، ليست له إرادة أو قرار أو رؤية أو اختيار.
منذ أن نشأ يتيماً نراه يتلقى ويتحمّل، ويقبل ما يقع له أو يواجهه، من دون أن تكون له هنا يدٌ عليا أو دنيا، تقرير أو رسم أو اقتراح. يتمه لم يكن له، بالطبع، دخل فيه؛ لقد كان قدره، ولكننا سنقابل هذا القدر في كل محطة من حياته. فقدَ أبويه، وتقرر أن ينتقل إلى بيت عمه، ليكون تحت سلطان امرأة عمه التي تقبله على مضض، وتعامله بازدراء بل واضطهاد. سنراه في بيتها معزولاً، لا حقّ له في أن يشارك العائلة سفرتها، أو يأكل مع أهلها. في المدرسة، لن يكون له، بالطريقة ذاتها، أحياناً مأكل ولا مصروف.
بطل الرواية لا يفعل سوى تلقي ما قُدّر له من اليتم إلى المصحة
هو هكذا إلى أن يطرده العم من بيته، ويحيله إلى قريب لن يعامله، بادئ بدء، بطريقة مختلفة. مرة ثانية، هو تحت قدره، يتلقّاه من دون مقاومة أو قرار. مع ذلك، نراه يستعين على هذا الحظ باللعب بكرة القدم، وتزجية الوقت مع أصحابه. كان عليه أن يعمل، أن يجد لنفسه شغلاً. هنا، يُفاجئنا أنه يستحي من العمل أجيراً. لا نفهم ذلك إلا كتَرفُّع بدويّ عن العمالة. يستحي من العمل، لكنه يعمل في محل عمّ أحمد، الذي يعامله بودّ لا يمنعه من أن يصرفه بعد وقت. يجد، على مضض، عملاً في كازينو، يتعب حتى يحسنه وينجح فيه، ما يرضي صاحب العمل، لكن ذلك لا يمنعه من أن يصرفه أيضاً بعد وقت. نحن، كذلك، نلاحقه من عمل إلى آخر. تضطره الحاجة إلى أن يعمل، يواجه استفزاز زملائه في المهنة، لكنه راضخ لذلك، راضخ لما تجرّه عليه دمامته وقصره. هيئته، هي أيضاً، جزء من قدره، يعانيها، لكن لا طاقة له على مواجهتها.
الحدث الوحيد العارم في حياته هو مقابلته لدرويش، القَبَضاي العنيف. درويش شخصية مزدوجة؛ فهو مجرم، لكن عطفه على صاحبنا يثير اهتمامنا. هذا العطف يجعله يبدو إنسانًا، لكن الروائي لن يتوقف هنا، ولن يتعامل مع هذا الازدواج روائيًا. درويش يدبّر عملًا للفتى، لكننا نراه يصطحب حياة، ابنة عم أحمد، إلى الشاليه. نصادف عبير، التي تروق للفتى فيعرض عليها الزواج، قبل أن يكتشف أنها غانية ومومس. درويش يقترف جريمة، يخرج الفتى بسببها من العمل، ليقضي وقتًا في الشارع، ينام في المسجد، إلى أن ينتهي به الأمر إلى مصحّة نفسية.
منذ البداية، من اليُتم إلى المصحة، نحن أمام شخص لا يفعل سوى تلقي ما قُدّر له. سلبٌ كامل، لا نكاد نجد له معه شخصية، أو قضية، أو سيرة خاصة. إنه بطل الرواية، وحياته تخترقها من البداية، بل إنها الرواية؛ ليست سوى تراكمها وتلاحقها، ليست سوى متابعتها. مع ذلك، تمرّ عليه ويمرّ فيها، من دون أن نجدها كوّنت شيئاً فيه، من دون أن نجد مقابلاً لها في شخصه وسلوكه، أو في سيرورتها في نفسه وعقله ومبادرته. إنه بطلها، لكن الواقع يستمر ويتفاعل بدونه، الواقع ينعكس عليه، وهو فقط انعكاساته، ليس سوى نسخة عنه. الواقع هو الذي يتكوّن ويتحوّل، وبطلنا لا يفعل أكثر من تلقيه واستقباله وانعكاسه.
الرواية هي هذا القاع الذي يصنع الآخرين ويطلقهم، لكنهم مجرد ترسيمات له، مجرد مقابل وانعكاس. البطل، في سلبه المستمر، هو بالضبط هذه الحياة التي تقع خارجه. يمكننا، هكذا، أن نفكّر في عنوان كونديرا: الحياة هي في مكانٍ آخر.
* شاعر وروائي من لبنان

Related News


