ابتسامة ابن رشد
Arab
19 hours ago
share

تتناسلُ المهرجاناتُ الصيفيّةُ تناسُلَ البعوض في البلاد العربيّة. ولعلّك تلاحظ تكاثر العروض التي تُنسَبُ إلى فنون الفرجة مع تغييب شبْهِ كلّي للفنّ الفرجويّ الأوّل: المسرح، فضلاً عن غياب الكتاب المسرحيّ عن دور النشر وعن معارض الكتاب. من ثمّ استحضارُ كاتب هذه السطور عملاً يَسُدّ هذه الفجوة، ويجمع بين الخشبة والكتاب في آن.

يعود ابن رشد إلى الأرض بصحبة سقراط وديكارت لدراسة ما آلت إليه الروح البشريّة، وهو ما يعتبره سقراط "مراهنةً غبيّة لا أمل في أن يحصل من ورائها أيّ خير". ولكن لماذا هؤلاء الثلاثة؟ "لأن نقاط تشابه عديدة تجمعنا"، هكذا يقول ابن رشد، "كلّ واحد منّا اقترب من روح الكون عبر التفكير والاستدلال، وكان مصيرُنا أن شتَمَنا أعداؤُنا وندّدوا بنا وأبعدونا عن أوطاننا وعاقبونا بل بلغوا حدّ القتل...".

تلك بعض الخيوط التي تنطلق منها مسرحية "ابتسامة ابن رشد" لرجل المسرح الفرنسيّ ذي الأصول البلجيكيّة بيير ديبوش (1930). ويكمن واحدٌ من وجوه طرافة هذا العمل في أنّه نصٌّ مُتَرجَمٌ إلى فعل مسرحيّ، يعالج مختلف القضايا الفلسفيّة في سياقٍ يجمع بين الموسيقى والرقص والشعر والغناء، ويُشاهَد عرضاً ويُقرأ كتاباً بالمتعة نفسها. ما يبرهن لكلّ من يحتاج إلى برهان على أن: لا المسرحُ في خصومةٍ مع الأدب، ولا الأدبيَّةُ في تناقض مع المسرحة.

عُرِض هذه العمل للمرّة الأولى سنة 2006 في مسرح النهار في مدينة آجان. وحضر كاتبُ هذه السطور عروضه في تونس سنة 2007 على هامش أيّام قرطاج المسرحيّة بالمعهد العالي للفنّ المسرحي، وفي قفصة. كما عًرض في عدة مدن بالمغرب، منها الدار البيضاء وتطوان وطنجة، ثمّ صدر نصّه في كتاب بالعربيّة (ورقة للنشر، جدّة، 2009)، في ترجمة بإمضاء محمد المديوني.

يعود كاتب هذه السطور إلى هذا العمل داعيًا إليه قرّاءه لأكثر من سبب. لعلّ من أوّلها ندرة المسرح المقروء في الثقافة العربيّة الراهنة. حتى ظنّ بعضُ دُعاة "مسرح المخرج" أنّ الفعل المسرحيّ مقتصرٌ على الإشارات الركحيّة التي تصدر عن المخرجين، وأنّه أصبح حكراً على الخشبة وغادر الورقة نهائيّاً. لكنّك مع هذا العمل أمام نصّ تتجلّى أدبيّته من خلال الفرجة، كما تتجلّى حركيّته من خلال الكتابة.

ويتعلق ثاني أسباب العودة إلى الاستمتاع بقراءة هذا العمل بسياق المرحلة التاريخيّة. كان العالم قد دخل لتوّه قرناً جديداً عند صدور مسرحيّة "ابتسامة ابن رشد" في 2007، وكان القرن الجديد متأرجحًا بين أنقاض "11 سبتمبر" ونشوة الرقمنة الوليدة. بينما العراق ينزف، وأوروبا فريسة الشكوك، والنزعة الإنسانية تترنّح. في هذا العالم القلق أصلاً، استُدعي سقراط وابن رشد وديكارت، نيابةً عن سائر الفلاسفة، لطرح الأسئلة على الروح البشرية: أين هي من وعودها المنسيّة وانهياراتها الحاصلة والوشيكة؟ تمّت دعوتهم عبر أحلام الفتاة الصغيرة، "صوفي"، كي يروا ما آلت إليه أفكارهم الفريدة بالقياس إلى الواقع المخيّب، وكي يمنحونا إمكانيّة لبصيص من الأمل، متمثّل في الأجيال الجديدة.

لكن ماذا عن عام 2025؟ الأغلب على الظنّ أنّ هؤلاء الفلاسفة سيجدون اليوم إنسانيّة مذهولة بضجيج الخوارزميات، محكومة بالأرقام، مذهولة بالشاشات. والأرجح أنّهم سيكتشفون أنّ الحرب لم تتراجع، بل تحوّلت إلى صورٍ وسرديّات، وأنّ العلم لم ينتصر، بل تحوّل إلى سوقٍ احتكاريّة. ولعلّ سقراط سيسأل من جديد: "كيف حال الروح؟"، لكنّه لن يسمع هذه المرّة سوى صدى بعيد: "أيّ روح؟"، ولعلّ ابن رشد سيبحث عن جسر بين العوالم، فلا يجد غير "الجدران العازلة": جدران الجغرافيا والأيديولوجيا والهويّات العضوض. أما ديكارت فسيرى أنّ شعاره "أنا أفكّر فأنا إذاً موجود"، قد ذاب في غيمة من البيانات، حيث الكائن لم يعد بحاجة إلى يقين بقدر ما هو في حاجة إلى الربح. ما الأسئلة التي كانوا سيطرحونها اليوم؟ هل لا يزال ممكناً أن نتحاور من دون أن نصرخ؟ هل توجد فكرة لا تُباع؟ هل يمكن أن نحلم بسلامٍ لا يعني الاستسلام؟ وإذا كانت الروح لا تزال حيّة، فأين تختبئ؟ في صوت طفل؟ في قلب شاعر؟ في صمت شجرة محترقة؟ أم أنّ ابتسامة ابن رشد في عام 2025 لن تكون إجابة، بل دعوة إلى إعادة فتح الكتب، وإلى عصيان النسيان، وإلى التفكير مَرّةً أخرى.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows