في منازل السعادة.. من حكمة الفلاسفة إلى الخوارزميات
Arab
1 day ago
share

من حكماء الإغريق إلى فلاسفة عصر الأنوار والمتصوفة والمحللين النفسيين، ومن روّاد السياسة إلى منظّري التكنولوجيا المعاصرة، شغلت السعادة، بوصفها غاية الحياة، فكر الإنسان عبر العصور.

في زمنٍ تفرض فيه وسائل التواصل الاجتماعي علينا السعادة كواجب، نعرض ما نظنه "صورها" على تطبيقات هواتفنا الذكية، كأن نضع مثلاً صور أسفارنا وطعامنا وشرابنا ومشترياتنا، جاعلين من حياتنا استعراضاً دائماً، "حياةً سائلة" استهلاكية، كتلك التي تحدث عنها زيغمونت باومان، بدل أن تكون شعوراً داخلياً. وفي هذا السياق، يعيد بعض المفكرين في كتبهم الصادرة حديثاً طرح السؤال عن ماهية السعادة، كإيف روكوت في كتابه "اليوم السعادة، اكتشاف معنى الحياة"، وأندريه كونت-سبونفيل في كتابه "البحث اليائس عن السعادة"، ودافيد فونكينوس في روايته "الحياة السعيدة"، وسواهم.

لكن، ما السعادة؟ أهي راحة الجسد، أم صفاء النفس؟ هل تكمن في اللذة أم في الهدوء الداخلي؟ وهل يمكن أن تكون السعادة غاية سياسية أو تكنولوجية، أم هل هي ببساطة منتج استهلاكي تسوّقه شركات التكنولوجيا والتنمية الذاتية؟

سفر السعادة

تباينت الفلسفات القديمة في رؤيتها للسعادة. بعضها، كفلسفة أرسطو، رأى فيها غاية الحياة الإنسانية، تتحقق بالتوافق مع العقل والفضيلة، داخل مجتمع عادل يوفّر مقومات الاكتفاء الذاتي. وبعضها الآخر حوّلها إلى حالة من السكينة الداخلية، تتحقق بالزهد في الرغبات غير الضرورية، كما في كتابات أبيقور، على عكس ما يشهده عصرنا من فرط الاستهلاك. أما الرواقيون، فقد ربطوها بالقدرة على ترويض الانفعالات، وعلى التمييز بين ما هو تحت سيطرتنا وما ليس كذلك. ومن هنا جاء تعبيرهم الشهير "حبّ القدر"، الذي لا سبيل إلى تغييره. معهم لم تعد هناك فلسفة سياسية، بل فكرة أن السعادة تخصّ الفرد، وتعتمد على إرادته وعلى قوّة حكمه على العالم.

يرغب الناس في السعادة وينسون أنها اختيار 

مع الثورة الفرنسية، غدت السعادة، على ما قال سان جوست، "فكرة جديدة في أوروبا"، وصار تحقيقها مسؤولية جماعية. أُعيد إدراج فكرتها في المجال السياسي: أحزاب وأنظمة وثورات رفعت شعار "سعادة الشعوب". لكن كثيراً ما تسببت هذه الأحلام الطوباوية، والأيديولوجيات التي اجتازت القرن التاسع عشر ثم العشرين، بمجازر وديكتاتوريات وخنق للحريات، أظهرت أوهام الحداثة.

أما في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد انهارت تلك الوعود الكبرى والسرديات المخلِّصة وفلسفات التقدّم التي تحدّث عنها جان فرنسوا ليوتار، والتي قالت إن سعادة الإنسان هي ثمرة العدالة الاجتماعية والتحرّر من الاستغلال الرأسمالي. كما انهارت فلسفة الأنوار التي رأت في التاريخ تعبيراً عن غائية عقلانية، والفلسفة الهيغلية التي سعت إلى الكشف عن تَشَكُّل الروح في العالم، والماركسية التي بشّرت بمجتمع بلا طبقات. لتظهر مكانها وعود جديدة، كالتي تبشرنا بها التكنولوجيا وأيديولوجيا الرقمنة: شباب دائم، ومتعة بلا ألم، وتواصل مستمر، وتحكّم في العواطف، بل وتعديل للدماغ نفسه، من خلال الذكاء الاصطناعي والطب التجديدي، ضمن ما يُعرف بـ"الترانسإنسانية"، التي تكتسب تأثيراً متزايداً، والتي تصوّر السعادة المطلقة والدائمة على أنها مشروع قابل للقياس والتنفيذ بكبسة زر.

هذا الأمل، القائل إن العلم والتكنولوجيا قادران على تحقيق "مجتمع السعادة"، حيث تسود المشاعر الطيبة و"الرعاية" (care) و"العلاج" (cure) تجاه الآخر، يدّعي خبراؤه أنهم يقدّمون السعادة للبشر بعيداً عن البُعد الفلسفي للإنسان. ويبدو أن هذا الموقف يزداد رسوخاً في عصرنا، عبر وعود جديدة تقدّمها الأيديولوجيات "الخيالية"، المستندة إلى إغراءات الاكتشافات التقنية الحديثة.

عالم أفضل

إن أفق "عالم أفضل"، كما تخيّله ألدوس هكسلي سنة 1931، صار اليوم في متناول اليد، لأن التكنولوجيا باتت تملك وسائل "صُنع" إنسان محسّن ومعدَّل تقنياً، كائناً "سيبورغياً" أو روبوتاً بلا روح. بدأنا نرى بعض نماذجه في الأطراف الصناعية التي يمكنها استقبال الأوامر من الدماغ.

تصنع التكنولوجيا عبودية جديدة باسم السعادة الدائمة

فمنذ منتصف القرن العشرين، أصبحت التكنولوجيا القوة الكبرى التي تعيد تشكيل العالم، ومعها تصوراتنا عن السعادة، التي لم تعد مسألة أخلاقية أو دينية أو سياسية فحسب، بل أصبحت أيضاً هدفاً تقنياً. إن الذكاء الاصطناعي والطب الجيني وعالم الترفيه ووسائل التواصل الاجتماعي، تحاول جميعها إنتاج وهم سعادة لا نهاية له. لكن هذا الحلم لا يخلو من مفارقة، إذ إن التكنولوجيا، التي يُفترض أن تحرّر الإنسان، تضعه اليوم في مواجهة نمط جديد من العبودية، يحوّل السعادة إلى منتج استهلاكي لم يعد فيه الجسد، مثلاً، مجالاً للتقبّل بحدوده الطبيعية، بل بات يُطلب منه أن يكون شاباً، جميلاً، نشيطاً، ومناسباً لمعايير مثالية لا تنتهي.

لكن في هذا المسار، ما الذي يتبقى من الإنسان نفسه؟ من هشاشته، وحريته، وقدرته على التعلّم من الألم؟ لربما آن الأوان للتشكيك في الفرضية التي نكررها منذ قرون: هل يسعى الإنسان فعلاً إلى السعادة؟ ألا يُظهر سلوكه أحياناً ميلاً إلى التدمير الذاتي؟ أليست الحروب والقلق والتنافس علامات على خلل في تصورنا للسعادة؟

في معناها الأصيل، لا تعدنا الفلسفة بالسعادة، بل تقترح علينا سبيلاً للتفكير والتساؤل، وربما للقبول بفكرة أن السعادة ليست حالة نبلغها، بل أثر جانبي لحياة تُعاش بصدق، وحكمة، ومصالحة مع الذات والعالم. قديماً قال كانط إن السعادة ليست مفهوماً من إنتاج العقل، بل من نسج الخيال. لعلها، بحسبه، مفهوم غامض وخاص جداً، ولو سعى الجميع إليها كغاية شاملة. فأوهام السعادة الدائمة تقودنا، في مفارقة مريرة، إلى القلق والضغط النفسي والحرمان من المعنى.

خوارزميات السعادة

ولئن كان رأي كانط أن السعادة ليست الخير الأسمى، فإنها حتماً ليست مرادفة للمتع السريعة التي يُغرقنا فيها المجتمع الاستهلاكي المعاصر، والذي يُفقرنا في الوقت عينه من الداخل. فنحن نعيش في زمن تُستبدل فيه "الحياة الجيدة"، كما فهمها القدماء، بـ"الحياة المريحة". لكن الراحة ليست مرادفة للسعادة أو السلام أو الامتلاء. فقد أصبحت السعادة اليوم قابلة للقياس بالأرقام والتطبيقات، وتُراقَب بالـ"لايك" والخوارزميات، مما أفقدها عمقها الوجودي والروحي.

هذا الحلم بـ"السعادة المبنية على التحكّم التام"، والذي تعدنا به التطورات المذهلة في العلم والتقنية، يدفع الإنسان ما بعد الحداثي إلى تخيّل عالم جديد، خارج التاريخ والتطور، حيث السيطرة على الدماغ تُصبح الحل لكل المشكلات، وخصوصاً الاجتماعية؛ عالم تحكمه معايير تفرضها العِلموية، والتي تتحوّل بدورها إلى أيديولوجيا.

قديماً قال باسكال إن "جميع الناس، دون استثناء، يريدون أن يكونوا سعداء". لكن هل يسعى الإنسان حقّاً إلى السعادة؟ هل يتصوّرها غاية ينبغي تحقيقها؟ أليست تراكمات الثروة في مجتمعاتنا تُنتج إنساناً مكتئباً أكثر من كونه سعيداً؟

يقول أندريه كونت سبونفيل إن الفيلسوف، مثله مثل سائر الناس، يبحث عن السعادة. لكنه، في سعيه خلفها، يختبر حزناً عميقاً. غير أن صفاءه الذهني، وحبه للحقيقة، ولو كانت قاسية، يتفوّقان على رغبته في السعادة. من هنا كانت متعة الصفاء الذهني أكثر أهمية من مجرّد البحث عن السعادة.

في النهاية، ليست السعادة منتجاً. إنها لغز. وكلّ ما يمكننا فعله هو أن نعيش في ظلّ هذا اللغز... بكرامة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows