سوريو "فيسبوك": صور الضحايا في مساحات رمادية باردة
Arab
1 day ago
share

خريف عام 2017، شنت القوات البورمية حملة عسكرية ضد أقلية الروهينغا في ميانمار، أسفرت عن حرق عدة قرى وتهجير 700 ألف شخص إلى بنغلادش، حاملين معهم شهادات مروعة عن المجازر التي وصفتها الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، أنياس كالامار، بـ"الفظائع"، وذلك في مطلع تصريحاتها حول تورط "فيسبوك" بالمجازر عبر بث خطاب إبادي تحريضي؛ إذ "أجَّجت خوارزمياته موجة من خطاب الكراهية ضد الروهينغا، أسهمت في ارتكاب أعمال العنف في العالم الواقعي". عام 2018، أصدرت بعثة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة تقريراً مفصلاً حمّل "فيسبوك" المسؤولية المباشرة في التحريض على المجازر، مؤكداً أن الموقع لعبت دوراً أساسياً في نشر خطاب الكراهية والتحريض على العنف في بلد لا يعرف معظم سكانه الإنترنت إلا من خلاله.

حضنت المنصة الزرقاء منشورات عنصرية ونكات تحريضية كانت جزءاً من وقود حرب إبادة راح ضحيتها ما لا يقل عن 6700 شخص من المدنيين خلال الشهر الأول فقط من بدء أعمال القتل (من 25 أغسطس/آب إلى أواخر سبتمبر/أيلول). قبل تلك الأحداث بعامين، قَدّم "فيسبوك" تحديثه الجديد للمستخدمين، "التفاعلات" التي تجاوزت زر الإعجاب التقليدي، وأتت برموز اختزلت طيفاً واسعاً من المشاعر الإنسانية في سبعة وجوه فقط، من منظور الخوارزميات، لا فرق بين التفاعل الإيجابي أو السلبي، فكل تفاعل يُعد مفيداً ما دام أنه يزيد من الوصول، حتى لو استند إلى التشفي أو العنف الرمزي.

وكما أسهم "فيسبوك" في تأجيج العنف في ميانمار، لعب دوراً شبيهاً في سورية؛ إذ تحوّلت المنصة إلى مساحة تعبئة طائفية وتحريض على العنف، وذلك عبر تحولها إلى قناة لإعادة إنتاج خطاب الكراهية وتوزيعه على مستخدمين ذوي صفات محددة. منشورات التحريض على "فيسبوك" ليست وليدة اللحظة، وإنما بدأنا نشهد إرهاصاتها عندما اتخذت الأحداث في سورية شكل صراع أهلي، استند إلى مظلوميات (راهنة وتاريخية) ذات أساسات وجذور واقعية وموضوعية، أسفر تناحرها ومحاولات إثبات أحقيتها إلى إشعال خطاب كراهية وتحريض على عنف ذي طابع طائفي وعرقي ومناطقي. وبالطبع، كان من شأن الأطراف السياسية استخدام المظلوميات لتعميق الشرخ بين المكونات السورية، ما يمكن أن يسهل الاستقطابات السياسية الحادة.

المنصة عينها أصبحت موطناً لبث التمييز، ولم يكن ذلك نتيجة إهمال فقط، بل نتيجة بنية رقمية تعزز التفاعل من دون مساءلة جدية للمضمون؛ فـ"فيسبوك"، كما في حالة ميانمار، لم ينجح فقط في السماح بخطاب كراهية منظّم، بل تلكأ عمداً في الاستجابة للتبليغات المتكررة، ولم يوفّر فريقاً بشرياً ملمّاً بالسياق اللغوي والثقافي العربي لرصد المحتوى التحريضي أو العنيف، على غرار ما حدث في ميانمار، حيث أصبحت النكتة والسخرية تمهيداً لتبرير الإبادة والتحريض عليها.

أما بعد مجازر الساحل السوري في مارس/آذار 2025، ومع تصاعد أحداث العنف، انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صور للضحايا، قابلتها فئة من المستخدمين بسخرية وضحك جماعي مستفز. لم يقتصر الأمر على المنشورات الشعبية، بل طاول حتى التقارير الصحافية التي وثّقت حجم المأساة وأشارت إلى مقتل نحو 1557 سورياً خلال يومين فقط، في واحدة من أعنف المذابح التي شهدتها سورية، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، مع الإشارة إلى أن هذه الأعداد هي المسجلة فقط، وربما تكون الحصيلة الفعلية أعلى بكثير. انتشرت عبارات ساخرة من قبيل "كنتم أقليات وصرتو نوادر" و"فطورنا أقليات بزيت"، عاكسة حجم التشظي الأخلاقي والاجتماعي. لم تجابه خوارزميات "فيسبوك" هذه التعليقات، ولم تردعها، أو تحظرها، ولم توافق على التبليغ عنها، بل عززتها، انطلاقاً من أن المحتوى الساخر الأكثر تفاعلاً هو الأكثر رواجاً.

وفي هذا السياق، تُطرح تساؤلات قانونية حول الإطار المنظِّم لهذه الخطابات، فالإعلان الدستوري الصادر في مارس 2025، رغم تأكيده مبادئ التعايش والسلم الأهلي، لا يتضمن نصاً صريحاً يُجرّم خطاب الكراهية في حال صدوره عن أفراد أو عن جماعات غير رسمية. المادة السابعة تحظر الفتنة والانقسام، لكنها تظل فضفاضة، ولا توفّر أدوات قانونية واضحة لمساءلة الأفراد أو الكيانات غير الحكومية التي تروّج خطابَ الكراهية، ما يترك مساحات رمادية تستغلها التعبيرات العنصرية والطائفية لتنتشر من دون رادع على الفضاء الرقمي.

في هذا الفراغ القانوني، من المثير للاهتمام أن نعود إلى نظريات فلسفية حاولت فهم السلوك البشري في ظل غياب القانون. يقترح الاقتصادي آدم سميث في كتابه "نظرية المشاعر الأخلاقية" (صدر عام 1759) منظوراً أكثر تفاؤلاً، حين يرى أن التعاطف جزء لا يتجزأ من بنية الإنسان النفسية، وهي فطرية وليست مكتسبة. هذا الميل الطبيعي نحو التعاطف يتيح لنا أن نشعر بما يشعر به الآخر، حتى من دون أن نربح شيئاً من وراء ذلك. غير أن سميث يعترف بأن التعاطف لا يتوزع بالتساوي؛ فنحن أكثر ميلاً إلى التعاطف مع من يشبهوننا، وأقل تعاطفاً مع المختلف دينياً أو عرقياً أو سياسياً. ومن هنا، تظهر الحاجة إلى مؤسسات وقوانين تضبط هذا الميل وتوسّع دائرته. لفهم كيفية عمل الضمير الأخلاقي، قدّم سميث مفهوم "المتفرج المحايد"، وهو صوت نتخيله داخلنا، يمثل حَكَماً أخلاقياً غير منحاز، يقيّم أفعالنا كما لو كان مراقباً خارجياً. هذا المراقب يؤدي دور الرقيب الذي يضبط مشاعرنا ويدفعنا إلى الاعتدال، ويعلّمنا كيف نزن الألم الإنساني بمعيار العدل، وليس بمعايير الهوية والانتماء. لكن في سورية، وفي لحظات الانقسام الحادة، تراجع هذا المتفرج لمصلحة ذلك المتعصب أو المنحاز انحيازاً حاداً. لم نعد نتساءل: "ماذا لو كنت مكانه؟"، بل صرنا نحدد موقفنا من الألم بحسب هوية الضحية، وسياق الحدث السياسي، فأصبح التعاطف انتقائياً، والعدالة مشروطة بالاصطفاف.

يطرح نيكولو ميكافيلي تصوراً تشاؤمياً للطبيعة البشرية في كتابه "الأمير". يصوّر الإنسان كائناً نفعياً، ميّالاً إلى استحضار شعوره بالأذى. التعاطف، عنده، ظرف عابر لا يُعوّل عليه في بناء النظام السياسي. ولهذا ينصح الحاكم بأن يبني سلطته على الخوف لا على المحبة، وعلى مبدأ المكافأة والعقاب لا على المشاعر. في لحظات محددة من الحرب السورية، بدا وكأن سردية ميكافيلي هي التي انتصرت: تراجعت مشاعر التضامن، وارتفع صوت التشفي، لكن سرعان ما تبين أن سردية سميث أقدر على التعبير عن المجتمع السوري؛ إذ يعلو مجدّداً صوت المتفرج المحايد، وأحياناً المتعاطف بوضوح، فوق ضجيج التفاعلات والانقسامات.

يُضاعف "فيسبوك" من هذه الأزمة، ليس بوصفه منصة فقط تنقل الكراهية، بل هو مُعزّز لها. أدوات التفاعل السريع تحوّل الانفعال إلى رأي، والرمز إلى موقف، وتُكافئ المحتوى الذي يثير أقصى درجات الاستجابة، لا أوضح درجات التعقل. في كل مرة تثير المأساة رغبة في الضحك المرقمن تُطمر القدرة على التقمّص والتعاطف، ويُعاد تدوير العنف رمزياً، يُستقبل بالتفاعل لا بالإدانة. ومع ذلك، لا يغيب التعاطف الشعبي تماماً، لكنه يظهر أحياناً عندما لا يكون الحدث قابلاً للاستثمار السياسي؛ ففي حرائق الساحل السوري، امتلأت الصفحات بمنشورات الدعم والمواساة. لم يكن ذلك ناتجاً عن تعاطف مع الأرض فحسب، بل لأن الناس رأوا في المتضررين أناساً لا ينتمون إلى خصم سياسي واضح. المثير في هذه اللحظة أن المحتوى العنيف تراجع، قبل أن تنشر على "فيسبوك" صورة تعلن أن فصيل أنصار السنة تبنى الحرائق، كما لو أن التعاطف لا يُمنح إلا حين يغيب الاصطفاف، وحين يتراجع صوت الانقسام ليفسح المجال لصوت الإنسان العادي، المنكوب.

في النهاية، لا يكفي أن نحمّل المنصات أو القوانين المسؤولية وحدها، استعادة الأخلاق تبدأ من استعادة صوت المتفرج المحايد داخلنا، من تمرين أنفسنا على إسقاط ذواتنا في موقع الألم الآخر، من إعادة تدريب عقولنا على رؤية الإنسان قبل الهوية، فربما حين يعود هذا الصوت إلى الداخل، نستعيد شيئاً من إنسانيتنا التي تعرضت لإهانة كبرى في التشفي عبر الرموز الإلكترونية الاختزالية.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows