
"كيفما تميل سورية يميل لبنان"، هكذا يُمكن تلخيص فحوى حديث المبعوث الأميركي إلى سورية توماس برّاك مع قناة إل بي سي اللبنانية، مساء الثلاثاء الماضي. أظهر الرجل طوال المقابلة إلمامه بوجهة نظر معينة بتاريخ لبنان والشرق، خصوصاً في القرن الماضي. برّاك أيضاً، كالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، مقتنع إلى حدّ كبير بـ"وحدة المسار والمصير بين لبنان وسورية"، وهي عبارة تكرّرت 15 سنة، بين عامي 1990 و2005، إبّان الاحتلال السوري (أو الوصاية السورية) للبنان، للتأكيد على عجز بيروت عن التحرّك بحرية من دون بوابة دمشق. في الجغرافيا السياسية، الأمر حتمي، على اعتبار أن سورية تحدّ لبنان من الجهتين الشرقية والشمالية، فيما فلسطين المحتلة من الجنوب والبحر غرباً.
كان برّاك واضحاً في التأكيد على أن ما ينطبق على سورية ينطبق على لبنان، من دون توحيدهما بالقوة، رغم حديثه عن اندماج سلمي إذا أمكن. وفي هذه التأكيدات جوهر مهمّته، بعيداً من أوراق تائهة عبر دوائر السلطات اللبنانية، وبين أيدي حزب الله. كلّ ما يرغب به الرجل، بناء على تكرار ولائه للرئيس الأميركي دونالد ترامب، أن يكون الجندي المولج بفتح أبواب السلام بين كلّ من لبنان وسورية من جهة مع إسرائيل من جهة أخرى. وهنا لم يعد برّاك متمسّكاً بجذوره اللبنانية، بل تقمّص الدور الأميركي "الواقعي"، الداعي إلى "نسيان الماضي"، والغوص في مستقبل مجهول عملياً. ... حسناً، أيّ مستقبل لا يتوجّس منه لبنان حين يردّد برّاك عبارات داعية إلى التماهي مع سورية في الملفّات الإقليمية والدولية؟ ألم يكن هذا هو السبب في الأساس، أي "وحدة المسار والمصير"، الذي دفع حزب الله إلى الانخراط إلى جانب بشّار الأسد في الحرب السورية، وهو أمر كبّد لبنان واللبنانيين الويلات؟... والآن مطلوب من اللبنانيين المناوئين للأسد التماهي مع سورية ـ أحمد الشرع، فقط لأن الجيوبوليتيك هكذا، أو لأن مبعوثاً أميركياً تكلم. هل يمكن لبرّاك مثلاً الطلب من الأردن أو العراق أو تركيا، جواراً سورياً، أن يميلوا كما تميل سورية؟... بالتأكيد لن يفعل هذا.
صحيح أن سورية منبسطةً جغرافياً في قلب الشرق العربي تبقى معياراً لاستقراره أو زعزعته، غير أن ذلك لا يعني اقتداء دول الجوار، ما لم تكن متفاهمة ومتعاونة، بالقرارات السورية. بماذا يختلف ما ردّده برّاك عن أن الغرب "ووحشيته" أوجدا الاضطرابات في الشرق الأوسط، وفقاً له، عمّا يفعله حالياً لجهة اعتبار أن لا سياسة لبنانية بمعزل عن سورية؟... صحيحٌ أن لبنان، سلطاتٍ في الوقت الحالي، لا يُعتب عليه، إلا أن مشكلته الأساسية تكمن في تغييب قراره السيادي. الحلّ هنا لا يعني نقل القرار من مكان إلى آخر، بل حكماً الدفع (إذا أراد برّاك المساعدة) إلى إيجاد مجالات التفاهم الداخلي، لصياغة قرار سيادي، قد يتفق مع كلّ القرارات السورية في المستقبل في أيّ قطاع، وقد لا يتفق.
الأكثر أهميةً في هذه السياقات انقلاب اللبنانيين، من كانوا ينادون يوماً بالاندماج مع سورية ـ الأسد، إذ فجأةً تحوّل عديدون منهم إلى القومية اللبنانية، وفي ذلك نفاق لا يشبه سوى صاحبه، مع العلم أن مسائل مثل الهُويَّة والانتماء، سواء في لبنان أو غيره، يجب أن تبقى دائماً خارج إطار النزاعات السياسية الداخلية. لا يُمكن بعد عقود من الحروب والتوترات والأزمات، ومن نافذة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي مناطق لبنانية وتسليم حزب الله سلاحه (الأمر الذي سيحصل في النهاية) أن يبقى لبنان أسيراً لقرارات لا تنبع من بيروت. هنا يأتي دور اللبنانيين، فإن أرادوا، على مستوى الجماعات والأفراد، التحرّر من العلاقة غير الندّية مع الجوار والعالم، فإن واجبهم الخروج من تكاذبهم وصياغة هُويَّتهم الخاصّة، أو يبقوا قاصرين سياسياً حتى إشعار آخر.

Related News
