في أبخرة المطبخ الأندلسي.. كيف صارت الوصفة وثيقة حضارية؟
Arab
1 day ago
share

من قال إن التاريخ يُقرأ في الكتب أو يُحفظ في الوثائق فحسب؟ أحياناً قد يكون في طبقٍ عتيقٍ تفوح منه رائحة القرن العاشر، أو في وصفةٍ مُطرَّزة بالقرفة والزعفران واللوز. هذا ما يُثبته لنا كتاب "موقد الأندلس: إرث المطبخ الأندلسي"، للمؤلف الإسباني خورخي فرنانديز بوستوس، بمشاركة خوسيه لويس فاسكيث غونثاليث، الصادر حديثاً في سلسلة الأندلس في دار "ألموزارا" الإسبانية، في كتاب يمزج بين التوثيق التاريخي وفن الطهي.

يركّز مؤلفا الكتاب على أن وصفات المطبخ الأندلسي ليست وصفات عادية، بل سجلات لحضارة عاشت وازدهرت وتقاطعت فيها طرق التجارة والمعرفة والذوق الرفيع. فمن وصفة الحساء البارد الغازباتشو، إلى الطاجين بالتمر واللوز، وحتى البَستينيو بالعسل، نجد أن كل طبق يُقدّم بوصفه جزءاً من لغة حضارية كاملة، حيث تتكلم التوابل، وتُحاور النكهات، وتستعيد الأواني التراثية أدوارها المسرحية القديمة.

يأخذنا الكتاب في رحلة إلى غرناطة وقرطبة وإشبيلية، ليس عبر الخطب أو المعارك أو الملوك، بل عبر أبخرة المطبخ الأندلسي. هذه المدن التي كانت منارات علم وفن، كانت أيضاً مختبرات ذوق، تصهر التقاليد الأمازيغية والعربية والرومانية واليهودية في طبقٍ واحد يُقدَّم بود وسخاء. ويركز المؤلفان على البعد الفلسفي للمائدة الأندلسية؛ وكيف أن الأكل لم يكن غاية بيولوجية فقط، بل فعلاً مدنيّاً وجمالياً وروحياً، تُمارس فيه قيم المشاركة، والاعتدال، والتوازن.

إشارات واضحة إلى قيم بيئية كامنة في التراث الغذائي الأندلسي

يعتمد الكتاب في كثير من أجزائه على كنوز من التراث الأندلسي المكتوب، وفي مقدمتها مؤلفات ابن رزين التُجيبي، المؤرخ الأندلسي البارز لفنون الطهو في القرن الثالث عشر، وصاحب كتاب "فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان"، الذي يُعد أحد أقدم المراجع المعروفة في فنون الطهو في الغرب الإسلامي. ولا يكتفي المؤلفان بإعادة تقديم الوصفات، بل يرفقانها بسياقاتها الاجتماعية والدينية والطبية، كاشفين عن فلسفة غذائية متكاملة ترى في الطعام وسيلة للتوازن بين الجسد والروح، بين المتعة والاعتدال.

ويخصّص المؤلفان فصلاً كاملاً للحديث عن ضرورة استعادة تقاليد المطبخ الأندلسي، لا سيما في لحظة تاريخية تُثار فيها أسئلة كبرى حول الأمن الغذائي والاستدامة، ليجد القارئ في  الكتاب إشارات واضحة إلى قيم بيئية كامنة في التراث الغذائي الأندلسي: فالمطبخ الأندلسي كان قائمًا على الزراعة المحلية، الموسمية، والاستخدام الأمثل للموارد، دون إسراف أو تكديس، إضافة إلى توظيف الأعشاب العطرية، وتخزين الأطعمة عبر التجفيف والتخليل، واحترام التناغم بين الطبيعة والمائدة، كلها ممارسات كانت تُطبق يومياً في منازل الأندلسيين، وهي اليوم عناوين بارزة في النقاش البيئي المعاصر.

بعيداً عن الصورة النمطية للمطبخ بوصفه مجرد ترفٍ يومي أو وظيفة منزلية، يأتي الكتاب ليعيد رسم الحدود بين الثقافة والغذاء، بين الذاكرة والبهارات، بين ما نأكله ومن نحن، فهو ليس كتاب طبخ بالمعنى المعتاد، بل أرشيف ثقافي يُعيد للأندلس نكهتها الغائبة، وللمطبخ العربي الإسلامي مجده المنسي.
 

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows