لم يعد الكذب رمزاً
Arab
2 days ago
share

في هذا الزمن، حيث الصورة تسيطر على كل شيء، وحيث المعلومة تكاد تصل إلينا جاهزة، وما علينا سوى التقاطها بجهد قليل، يبدو من العبث الكذب حول شأن ما، ذلك أن كل شيء بات واقعياً. لم يعد ثمّة مكانٌ للرمز، ما تقدّمه التكنولوجيا تفوق على مخيلة البشر. لم يعد الكذب اليوم بشأن أي شيء مجرّد خداع لفظي يمكنه أن يمرّ مرور الكرام. بات الكذب اليوم مكشوفاً إلى حد الفضيحة؛ صحيحٌ أنه بات يصنَع ويركَّب ويصَمم باستخدام منصّات مخصّصة للفبركة ومنها طبعا الذكاء الصناعي، لكن الذكاء الصناعي نفسه قادر في ثوانٍ قليلة على كشف الفبركة والتضليل. كل ما يحتاجه الأمر خبرة متواضعة في التعامل معه، خبرة يمكن الحصول عليها عبر وسائل التواصل من دون كلفة ومن دون جهد؛ أعطي أمرا للذكاء الصناعي وهو سوف يتكفل بفضح كل شيء.

قد تمرّ كذبة شخص عادي ليس محاطا بهالة من النجومية أو الشهرة أو الانتشار، لكن الكذبات التي يسوقها نجوم الإعلام والفن عن أنفسهم سوف تتحوّل، بسرعة مذهلة، إلى فضيحة كبيرة تكاد تقضي على مستقبل صاحبها. وهذا بالتحديد ما حدث مع الإعلامية المصرية مها الصغير (طليقة الفنان أحمد السقا)، حيث نسبت لنفسها، في برنامج ترفيهي منتشر جدا في مصر والعالم العربي، أربعة أعمال فنية، قالت إنها أنجزتها في مرحلة تعافيها من التعنيف الذي مارسه عليها طليقها. أي أن إنجازها هذه الأعمال كان علاجاً نفسياً، وليس بهدف الإبداع. ولكن ثمّة من كان ينتظر الإعلامية المشهورة ليكشف كذبتها الكبيرة. كانت اللوحات التي نسبتها لنفسها صوراً عن أعمال فنية لرسامين معاصرين مختلفي الجنسيات. هل كلفت هي أحداً ما بأن يختار لها لوحات عشوائية من الشبكة العنكبوتية، أم هي من اختارتها من دون أن تعرف لمن هي؟ ليس هذا أمراً مهماً، هي والفريق العامل معها والمذيعة المشهورة مقدّمة البرنامج وفريق الإعداد والمحطة التي تبث البرنامج مسؤولون عن هذه الفضيحة التي كشفها أصحاب الأعمال أنفسهم.

لماذا تنسب شخصية معروفة ومشهورة وابنة شريحة اجتماعية ثرية جداً شيئاً كهذا لنفسها؟ في ظني أن مها الصغير، ومن مثلها، تحتاج إلى اعتراف، والاعتراف قد تظنّه لن يتحقق لها إلا إذا كانت صاحبة منجز كبير. قد تكون لها محاولات في الرسم، لكنها معروفة كابنة (محمد الصغير) صاحب أشهر سلسلة صالونات تجميل في مصر، ومعروفة زوجة الممثل أحمد السقا وطليقته، ومعروفة مذيعة متواضعة في برنامج اسمه يشكل مفارقة كبيرة مع سلوكها "الستات ما يعرفوش يكدبوا". لم يستطع ذلك كله أن يملأ فراغ التحقق في داخلها، التحقق الذي يأتي من الاعتراف الخارجي، خصوصاً في أزمتها مع طليقها النجم. هل أرادت أن تثبت لنفسها وللآخرين أنها شخصية مبدعة مثله، فنسبت لنفسها ما ليس لها من دون حتى أن تجهد نفسها بأن تعيد رسم الأفكار برؤيتها الخاصة، بل طبعت الأعمال وقدّمتها كما هي مطبوعة بتواقيع الفنانين الأصليين؟

هناك استسهال في الكذب والفبركة، استسهالٌ مثير للغثيان، لأنه يستهتر أيضاً بالمشاهدين والمتابعين ويهين ذكاءهم؛ وهناك عدم فهم لمستوى المشاهد الذي يمكنه بلحظة كشف الفبركة؛ وهناك أيضاً قصور في فهم دور الإعلام، حتى الترفيهي، إذ ثمّة ميلٌ حالياً في الإعلام العربي إلى تقديم صورة مثالية عن كل شيء. وهذا يظهر في عمليات التجميل المهولة التي تلجأ إليها النجمات، ويظهر في استخدام الفلاتر المحسّنة للصورة، ويظهر في كل تفصيل يضع ستارة على الحقيقة لصالح صورة مزيفة لا تمتّ للواقع بصلة؛ إضافة إلى شيء مهم، أن وسائل التواصل، مثل "تيك توك" و"إنستغرام" وحتى "فيسبوك"، جعلت من مسألة الملكية الإبداعية أمراً ضبابياً، حيث لا رقيب ولا حسيب ولا معايير ولا ضوابط تنظّم عمل هذه الوسائط، وتضع قوانين صارمة لمستخدميها. الأمر متروكٌ للضمير الشخصي ولمصادفة الكشف عن الانتحال والفبركة والتزوير. ليست مها الصغير فريدة في هذا الشأن، هناك عشرات آلاف الفبركات لم يسمع بها إلا القلة، لأن من فبرك ليس شخصاً منتشراً، وهذه واحدة من ضرائب الشهرة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows