مجرم الحرب.. "النرجسي الخبيث".. وجائزة نوبل للسلام
Arab
2 days ago
share

يبدأ الحوار الهزلي كالتالي. مجرم حرب مطلوب للعدالة الدولية يتلاعب بشخص يرى علماء نفس أنه مُصاب بداء "النرجسية الخبيثة" (malignant narcissism)، قائلاً: "إنك تصنع السلام في هذه اللحظة، دولة تلو الأخرى، ومنطقة تلو أخرى. لذا، أودّ أن أُقدّم لكم، سيدي الرئيس، الخطاب الذي أرسلته إلى لجنة جائزة نوبل؛ إنه يرشّحكم لجائزة السلام، وهي جائزة تستحقونها عن جدارة". ليردّ المصاب بالنرجسية الخبيثة متأثراً: "شكراً جزيلاً. لم أكن أعلم بذلك. رائعٌ أن تأتي منك تحديداً، فهذا أمر ذو معنى كبير. شكراً جزيلاً، بيبي".

كان هذا جانباً من حوار ابتدره رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عند لقائه الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاثنين الماضي في البيت الأبيض. المفارقة أن كلا الرجلين أبعد ما يكونان عن صنع السلام. بل كان اجتماعهما ذاك لمناقشة جريمة إبادة إنسانية رهيبة في قطاع غزّة مستمرّة، هما مجرماها الأساسيان. ومع ذلك، تمثل جائزة نوبل للسلام هاجساً لدى ترامب المهووس بها زاعماً أنه يستحقها، ولكنها لا تُعطى له لأنه ليس "ليبرالياً".

ربما يكون عند ترامب بعض حقّ في هذه النقطة تحديداً، فقد سبق للجنة نوبل أن منحت جائزتها للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عام 2009، أشهراً بعد انتخابه، أي قبل أن يُعرف خيرُه من شره، بذريعة "جهود استثنائية لتعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب". طبعاً، أنتهى الأمر بأوباما مجرماً، على خطى سلفه جورج بوش، وإنْ بدرجة أقل، في اليمن وسورية والعراق وأفغانستان. يدرك ترامب ذلك، لكن منطقه يقول إن لا أحد أفضل من أحد. وهو فعلاً أقنع نفسه بأنه يوقف الحروب. "أنا أوقف الحروب. أنا أكره رؤية الناس يقتلون". قال ذلك خلال لقائه نتنياهو في وقت ضاعف فيه شحنات أسلحة القتل والدمار التي تقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل!

دمّر نتنياهو قطاع غزّة عن بكرة أبيه، وقتل الأطفال الرضّع جوعاً وعطشاً، وما زال يفعل الأفاعيل الخسيسة

تُعَرَّفُ النرجسية الخبيثة علمياً بأنها اضطراب نظريٌّ في الشخصية يجمع بين النرجسية والبارانويا (جنون الارتياب)، والاعتلال الاجتماعي، والسادية. وتُعدّ أكثر أشكال النرجسية سمّية، وتتميز بسلوكيات معادية للمجتمع، وسادية متوافقة مع الذات، ونظرة ارتيابية تجاه الآخرين. ويقول علماء النفس إنها نمطٌ من الشخصية يؤدي إلى نرجسية مفرطة، وعدوانية شديدة، وفي بعض الأحيان إلى إساءة معاملة الآخرين. وقد يلجأ الشخص الذي يعاني منها إلى وسائل خادعة أو عنيفة لتعزيز شعوره بالرضا الذاتي. هذا هو ترامب، المرتاب المجنون، الشرس العدواني العنيف، ومع ذلك يريد أن يُحمَدَ على ما ليس هو له بأهل.

نترك المُرَشَّحَ ترامب قليلاً ونعود إلى المُرَشِّح. في 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحقه، بعد تحقيق في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتُكبت خلال حرب الإبادة في قطاع غزة. نتنياهو متهم بارتكاب جرائم حرب، مثل استخدام التجويع سلاحاً، بالإضافة إلى جرائم ضد الإنسانية تشمل القتل، والاضطهاد، وأعمال لاإنسانية أخرى. منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023) قتلت إسرائيل، بأوامر مباشرة من نتنياهو، أكثر من 60 ألف شخص، وأصابت عشرات آلاف آخرين، أغلبهم نساء وأطفال. دمّر نتنياهو قطاع غزّة عن بكرة أبيه، وقتل الأطفال الرضّع جوعاً وعطشاً، وما زال يفعل الأفاعيل الخسيسة ويرتكب الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية. ومع ذلك، يحسب نفسه مؤهلاً لأن يُرَشِّحَ مجرماً مثله لجائزة سلام!

نعود هنا إلى سياق المفارقات في لقاء ترامب ونتنياهو. لم تكد دقائق تمضي على عبارات الإطراء والمديح المتبادل بين دَعِيَّي السلام، النرجسيين الخبيثين، حتى كانا يعودان إلى طبعهما الإجرامي. خلال المؤتمر الصحافي المشترك، سأل صحافي ترامب عما إذا كان لا يزال يرى ضرورة لتهجير فلسطينيي قطاع غزّة خارج حدوده. وكان ترامب قد دعا علناً، في فبراير/ شباط الماضي، إلى تهجير فلسطينيي غزّة إلى دول عربية ووضع القطاع تحت سيطرة الولايات المتحدة لتحويله إلى "ريفيرا الشرق الأوسط"، ليس بهدف خدمة أهله، بل لجعله قبلة سياحية للأثرياء الأجانب. المهم، عندما وُجِّهَ السؤال لترامب أحاله مباشرة إلى نتنياهو. "نسميه الخيار الحر"، هكذا قال نتنياهو. "إن أراد الناس البقاء، يمكنهم ذلك، وإن أرادوا الرحيل، يجب أن يتمكّنوا من ذلك. لا ينبغي أن يكون (قطاع غزّة) سجناً، بل مكاناً مفتوحاً يمنح الناس حرية الاختيار". وأضاف أن إسرائيل تعمل "بشكل وثيق جداً" مع الولايات المتحدة لتحديد دول مستعدّة لاستقبال الفلسطينيين المرحّلين من غزة، وبحسبه، باتت المفاوضات مع بعض الدول "قريبة من الاكتمال"، أما ترامب فعقب بأن هناك "تعاوناً رائعاً" من دول الجوار، مضيفاً "شيء إيجابي سيحدث".

قد يلجأ من يعاني من النرجسية الخبيثة إلى وسائل خادعة أو عنيفة لتعزيز شعوره بالرضا الذاتي. هذا هو ترامب، المرتاب المجنون

زعمُ "الخيار الحر" كاذب. كيف يختار من يُمارَس ضدهم تجويع وتعطيش منهجي منذ أشهر طويلة، ومن يبادون ليل نهار، حتى وهم يحاولون الحصول على المساعدات الإنسانية من "مؤسّسة غزّة الإنسانية" الأميركية، والتي توظف مرتزقة أميركيين تعاونوا مع الجيش الإسرائيلي بقتل ما لا يقل عن 550 مدنياً من الجوعى الذين وثقوا بـ"مصائد الموت" التي ينصبونها للمنكوبين؟ ليس هذا فحسب، فهذا وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس يكشف عن خطة لإقامة "مدينة إنسانية" على أنقاض رفح، يُجمع فيها مئات آلاف من الفلسطينيين وتُقيَّد حركتهم ضمن شروط أمنية صارمة. بمعنى معتقل جماعي لا يسمح بمغادرته إلا إلى خارج القطاع. ومن اختار العيش خارج هذا المعتقل الجماعي عرضة للقتل أو الموت جوعاً.

وفي سياق مفارقات كثيرة هنا أيضاً، أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، أول أمس (التاسع من يوليو/ تموز)، فرض عقوبات على المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيزي، التي وثقت الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين في قطاع غزّة في عدة تقارير، وطالبت بملاحقة الجهات والشخصيات الضالعة فيها. وسوّغ روبيو، في منشور على موقع إكس، هذا "لجهودها غير الشرعية والمخزية لحث المحكمة الجنائية الدولية على التحرك ضد مسؤولين وشركات ومديرين تنفيذيين أميركيين وإسرائيليين". وكانت ألبانيزي قد طالبت في اليوم نفسه ثلاث دول أوروبية بتقديم توضيحات عن سماحها بتوفير "مجال جوي آمن" لنتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب في غزّة، في رحلته إلى الولايات المتحدة. وكانت واشنطن قد فرضت قبل ذلك عقوبات على قضاة في المحكمة الجنائية الدولية لمجرّد أنها تجرأت على اتهام نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين آخرين بارتكاب جرائم حرب.

هذه هي قصة مجرم مطلوب دولياً، ونرجسيّ خبيث، وجائزة نوبل للسلام. هذا جزء من السردية الأزلية للقوة والحق، فالحقوق دون قوة تصبح باطلاً، أو على الأقل شعاراً للضعفاء. أخيراً، بئس المُرَشِّحُ وبئس المُرَشَّحُ هنا.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows