
على الرغم من اعتراض كثير من القراء على المقولة التي يردّدها الروائيون، وهي أن من الأفضل ألّا تُكتب الرواية عن الثورة إلا بعد انتهائها، سواء كانت منتصرة أم مهزومة أم فاشلة، فإنَّ الوقائع تؤكد صحة هذه المقولة، وخطأ القرّاء المعترضين. إذ لم يخطر ببال أحد من الذين شاركوا في الثورات أن تفضي ثورتهم إلى هذا الواقع المرير، الذي قفزت فيه قوى لا علاقة لها إطلاقاً بقيم الثورة إلى السلطة في جميع البلدان العربية، بل بلدان العالم كله، واستولت على الحكم، ومنعت تحقق أي مطلب من مطالب الثوار.
وبات من مهام الرواية أن تقول شيئاً مختلفاً تماماً عمّا قالته في الماضي القريب، الذي شهد اشتعال تلك الثورات وحماسة المشاركين في صنعها.
ومن شبه المؤكد أنَّ الرواية العربية لم تتنبأ بالثورات العربية، والمسألة في رأيي لا تتعلق بالرواية ولا بالروائيين، بل بالواقع نفسه، أي إن هذا الأمر لم يكن عجزاً، أو نقصاً في معرفة الناس، أو ضعفاً في تأمّل الواقع. ربّما كان الواقع نفسه مراوغاً أو مخادعاً، وكانت مظاهر الجمود واللامبالاة والعجز والكسل الاجتماعي والفشل في العمل السياسي تظهر على سطح الواقع بشكل مكشوف، ولم تكن ثمة استعدادات للثورة، لا في الأوساط السياسية، ولا في الأوساط الاجتماعية، ولا بين الأفراد من جميع الطبقات والفئات. وقد يكون هذا أحد أسباب الفشل، إذ غابت النظرية الثورية وآفاق الحلول المستقبلية وأشكال الحكم البديلة عن جميع الثورات.
وعلى الرغم من أنَّ الثورات فاجأت الجميع في عالمنا، تولّت نصوص كثيرة عبء الكتابة عن الثورة، في الثورة، أي أثناء وقوع الحدث نفسه، حيث يغامر الروائي بالتعبير عن اللحظة التي يعيشها أبطاله، مشغولاً بالمصير الفردي قبل أن يفكر في المصائر الجمعية.
تولّت نصوص كثيرة عبء الكتابة عن الثورة، أي في أثناء وقوع الحدث نفسه
وربما كانت الرواية السورية هي التي حازت النسبة الأكبر، إحصائيّاً، في الكتابة الروائية عن ثورة السوريّين. فسورية المتنوّعة، التي واجهت النظام القديم بوسائل وأشكال وطرق اختلفت باختلاف المناطق، كانت لها روايتها المتنوعة عن الثورة، وعن كيفيات المقاومة التي اتّخذها أبطالها في مواجهة النظام. سنحتاج إلى عمل بحثي دؤوب، يقوم به فريق من النقاد، أو ناقد مقتدر واحد، للإحاطة بالنتاج الروائي السوري في هذه المرحلة، ومعرفة القيمة الفنية أولًا لتلك الأعمال، ومدى قدرتها على التعبير عن المحتوى العام، عبر التفاصيل، للثورة عموماً.
وفي المواجهة مع الهزيمة، وقد سمّيتها فشلاً للتخفيف من وقع الكارثة، يصعب لوم الرواية العربية إذا ما ترددت أو تمهّلت وتأخرت في الكتابة عن المصير الذي آلت إليه حياتنا، انطلاقاً من المقولة الفنية والفكرية التي ترى أن تأخير الكتابة الروائية ضرورة فنية لا مفرّ من اتباعها.
لقد فشلنا جميعاً في تغيير الواقع. وربما كان الأسى الحارق سيد موقفنا من الهزيمة، ذلك أن الثورات حملت في طياتها أحلام العرب المقهورين الرازحين تحت نير الاستبداد؛ الحلم بالتغيير للتخلص من الطغاة العرب الذين حكموا حياة الناس بالنار، بينما جاء البديل من نوع آخر، يُنذر بإعادة إنتاج الطغاة.
* روائي من سورية

Related News


