رغم الظروف الاستثنائية التي تمر بها سورية والمخاوف المتزايدة لدى طلاب وأساتذة المعهد العالي للفنون المسرحية حول واقع ومستقبل المسرح في البلاد، اختار طلاب قسم التمثيل في السنة الثالثة أن يواجهوا كل الصعوبات بتقديم عرض مسرحي مفتوح أمام الجمهور بعنوان "الليلة الثانية عشرة" للكاتب الإنكليزي وليام شكسبير، لمدة ثلاثة أيام متتالية، كان آخرها أمس الأربعاء.
ويندرج العرض الذي قدّم على خشبة المسرح المكشوف داخل المعهد العالي للفنون المسرحية في العاصمة دمشق، وبجهود طلابية وأكاديمية ذاتية، ضمن متطلبات التخرج للطلاب، في وقت حساس تعاني فيه المؤسسات الثقافية في سورية من تراجع كبير على مستوى البنية التحتية والدعم الرسمي والظروف النفسية والمعيشية التي تحيط بالطلاب والأساتذة على حد سواء. هذا الأمر دفع المشاركين في العمل إلى تحويل العرض إلى مساحة للتنفس الإبداعي، ورسالة واضحة على إصرارهم في الدفاع عن الفن والمسرح وسط تحديات كبرى.
وشارك في العرض أيضاً طلاب المعهد العالي للموسيقى، الذين قدموا موسيقى ملائمة لعرض المسرحية في تشاركية بين المعهدين التابعين لوزارة الثقافة.
وقالت إليسار مسعود، وهي طالبة في السنة الثالثة بالمعهد العالي للموسيقى، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنها تشارك في هذا العرض ضمن تدريباتها على الغناء الكلاسيكي، مضيفةً: "العرض هو الليلة الثانية عشرة لوليام شكسبير، وهي مسرحية تحمل مزيجاً من الكوميديا والتراجيديا، وهذا التنوّع مهم جداً في هذه الفترة التي نعيش فيها تراجيديات كثيرة. كطلاب أوبرا، من الضروري أن ننخرط في المسرح وتدريباته، وقد تعلمت من هذه التجربة كيف أكون مرتاحة مع نفسي على الخشبة، وهذا ما نحن بحاجة إليه".
أما طالب السنة الثالثة في قسم التمثيل، ليث صبري الشيخ، فيشير في حديث مع "العربي الجديد" إلى الصعوبات التي واجهت المشروع منذ بدايته، قائلاً: "واجهنا الكثير من العوائق في بداية الفصل بسبب الأحداث السياسية والميدانية من الساحل إلى السويداء، وهو ما تسبب بتعليق التدريبات لفترة. لكن أستاذتنا كانت دائماً تشدد على أهمية تقديم شيء يفرحنا، أن نخلق مساحة كوميدية بسيطة نهرب بها من واقعنا". وتابع: "للأسف، المجتمع في سورية لا يفهم غالباً معنى أن يكون أحدنا طالب تمثيل، لا يدرك الناس أن التمثيل يُدرّس أكاديمياً. نحن ندرس لأربع سنوات لنصبح ممثلين، وهذه ليست مهنة تُكتسب بكبسة زر. آمل أن أعود إلى هذا المعهد كمُعيد، لأشارك خبرتي مع الطلاب بعد أن أختبر المسرح في الداخل والخارج".
ولفتت طالبة السنة الثالثة في قسم التمثيل، لانا مازن علوش، إلى أهمية هذه المرحلة من دراستها، مشيرةً بحديثها لـ"العربي الجديد"، إلى أن المعهد يجمع تخصصات مختلفة مرتبطة بالفنون المسرحية كالرّقص، والتقنيات، والإضاءة، والسينوغرافيا، والغناء والموسيقى.
وقالت: "في السنة الثالثة، يجب على الطالب التمرّن على نصوص كلاسيكية. واختارت الأستاذة مريم علي مشرفة العرض أن نعمل على نص شكسبيري، لأنه يحمل طابعاً بسيطاً وكوميدياً، وهو ما أردناه لنبتعد قليلاً عن المآسي اليومية التي نعيشها. أكملت: "مررنا بمرحلة عدم استقرار، وانقطاعات عن الدوام، وواجهنا صعوبات نفسية حقيقية، خصوصاً مع الخوف الذي ساد حول مصير المعهد. لكننا أصررنا على الاستمرار رغم كل شيء. هذه المسرحية ليست فقط فحص تخرّج، بل إعلان إصرار على التمسك بالفن والجمال في بلدنا".
من جهتها، أشارت الأستاذة المشرفة على المشروع، مريم علي، إلى أن اختيار مسرحية "الليلة الثانية عشرة" لم يكن اعتباطياً، بل جاء كخيار مقصود للخروج من مناخ الحزن والدراما إلى أجواء من الحب والفكاهة والرقص. تابعت في تصريح لـ"العربي الجديد": "اخترت عملاً كوميدياً لأنه يعكس احتياج الناس إلى الحب والنكتة والفن. العمل يتناول مشاعر الحب، الزواج، والرغبة، ولكن بشكل غير مؤذٍ، وإنما إنساني".
وأضافت: "عدد الطلاب المشاركين في العرض هو 10، عملنا معهم على مدار الفصل رغم غياب الديكور والأزياء. صنعنا كل شيء بأيدينا، وعلمنا الطلاب أن الإبداع يمكن أن يُولد من الإمكانيات المحدودة، رغم أهمية البنية التحتية التي تكاد تكون منعدمة".
وتطرّقت علي إلى اختيار موقع العرض، مشيرةً إلى أن اختيار المسرح المكشوف جاء "لأنه جميل ومناسب للمسرحية"، لكنّه "يعاني من نقص تقني واضح، سواء في الصوت أو الإضاءة"، مضيفة: "الأصوات الخارجية كانت تحدياً كبيراً لنا، والعمل تم بجهود فردية من الأساتذة والطلاب. هذا العرض هو تجربة جديدة نختبر فيها قدرتنا على تقديم عمل أمام جمهور واسع، وأتمنى أن يكون دافعاً للطلاب لمواصلة مسيرتهم".
وتوجّهت مريم علي بالشكر إلى أهالي الطلاب الذين أبدوا تفهماً ودعماً حقيقياً لأبنائهم، وقالت: "نحن نبذل مجهوداً كبيراً حتى ساعات متأخرة من الليل، وأهالي الطلبة متعاونون وداعمون، وهو أمر أقدّره بشدة. أحياناً، هناك من لا يفهم ما الذي ندرّسه هنا، لكننا نقول للجميع: أهلاً وسهلاً بكم لتروا بأعينكم ما نقدّمه من مواد فنية وإنسانية نبيلة".
وفي ختام حديثها، توجهت علي برسالة إلى وزارة الثقافة، مطالبةً إياها بدعم هذه المشاريع والمؤسسات، قائلة: "الفن في سورية بحاجة إلى دعم حقيقي، سواء عبر توفير بنى تحتية أو تشجيع الإنتاج الطلابي. نحن لا نطالب بالمستحيل، فقط بإعطاء فرصة لهذه المواهب الشابة أن تنمو وتزدهر. لدينا في هذا المعهد طاقات مدهشة لو جرى استثمارها بالشكل الصحيح. هذه التجربة دليل حيّ على أن المسرح لا يزال ينبض في سورية رغم كل شيء".
Related News

