
كنتُ في مطار الدوحة آنذاك عائداً إلى عمّان في إجازة قصيرة، عندما اندفعتُ إلى الحمّام وأخذت أتقيّأ، والصور لا تبرح مكانها في الهاتف النقّال، صور الشهداء الذين قضوا في عدوان "الجرف الصامد" (8 يوليو/ تموز 2014). صور الجثث الملقاة على الطرق كيفما اتفق. الوجوه، العيون المطفأة، وذلك النحيب الحزين للأمهات اللواتي لا تُعرف أسماؤهن. النحيب الذي لا تلتقطه الصور الثابتة في "الموبايل"، لكنّه، بنحو ما، قوي ولا يُردّ، تسمعه كأجراس ضخمة تُقرع بلا توقّف، ما يجعلك تندفع إلى حمّامات مطار الدوحة.
مر أحد عشر عاماً، والأجراس تُقرع. ليلة الثامن من هذا الشهر، وأنت تتصفّح في "فيسبوك" تعود إليك إحدى تلك الصور. تحدّق فيك بعينَين مطفأتَين، ألا زلت تذكُر؟ نحن القتلى هناك نبعث الرسائل، لا نتوقّف عن إرسالها، هل تروْنا بعد الموت؟ هل نسيتُم أسماءنا؟
في الصورة فتاة غزّية بالغة الجمال، بشال بُنّي يُغطّي شعرها، وبوجه نضر يتوزّع عليه الضوء والظلّ، فيضيء أنفها وإحدى وجنتيها وحسب، تاركاً عينيها وبقية وجهها في الظلّ. تقف أمام ثلاجة الموتى في أحد مسشتفيات رفح، أمام رَفّ حديدي حيث يُسجّى شاب صغير السنّ قبالتها.
في الصورة التي عثرتَ عليها في "فيسبوك"، تضع الفتاة يدها أسفل ذقن الفتى الصغير، تتلمّس وجهه الحبيب، بينما عيناها تنظران إليه لا إلى الكاميرا، كأنهما مغمضتان، كأنها أغمضتهما عليه وخبّأته إلى الأبد. تعرف من التعليق المرفق بالصورة أنها خطيبة الشهيد عبد الرحمن الزاملي، فتكبّر الصورة قليلاً فلا ترى خاتماً في الإصبع، ولا إسورة في اليد، بل حزناً عظيماً في عيني الفتاة المغمضتَين، التي عرفت، بعد بحث طويل، أن اسمها آية شيخ العيد، وأنها ليست خطيبته وحسب، بل ابنة خالته أيضاً، ما يعني أنهما كبرا معاً في أرض الشوك تلك.
وأنتَ تبحث، تعثُر على صور أخرى لآية، يدها تلامس جبينه فيما هي تبكي، وثمّة يدٌ وراءها كأنها تواسي. يبدو وجهها جميلاً. وجه طفلة، ربّما كانت آنذاك في العشرين من عمرها، بينما هو في الثانية والعشرين، هو المُسجى أمامها وأمامنا بلا حراك، هو الذي لن يكبُر بعد لأن الموتى لا يكبرون، بل يتركون هذا العبء لنا، بأن نكبُر وننسى.
كان عبد الرحمن، وهو أكبر إخوته، طالباً في كلية الآداب في الجامعة الإسلامية، وسيماً ورياضياً، كما يفيد تقرير صحافي نُشر عام 2020، وكان وآية، التي ليس ثمّة حزن يشبه حزنها في تلك الصور، يعتزمان الزواج بعد عيد الفطر، أي بعد أقلّ من شهر من استشهاده في اليوم الرابع من رمضان 2014، الثامن من يوليو/ تموز من ذلك العام. كان أول شهداء عدوان 2014. كان وبضعة من رفاقه في أحد أنفاق رفح عندما قُصفوا وتسرّب الغاز إليهم. وكان، كما يقول رفاقه، كمن يذهب إلى عرسه، جميلاً وصغيراً، في بلادٍ تودّع أبناءها ولا تتوقّف، لأن ثمّة قاتلاً لا يتوقّف عن قصفهم على أرضهم وفي بيوتهم، وفي أحلامهم بأن يكبُروا ويتزوّجوا وينجبوا ويشيخوا مثل بقيّة الناس. لكنّها أحلامهم تُغدَر دائماً وتُجهَض.
تتذكّر آية، في تقرير صحافي عنها، أنها خرجت هي وخطيبُها في نزهة قبل استشهاده، وأنه بدا سعيداً، وصدّقته. الفتاة الجميلة في ثياب الحداد صدّقته عندما وعدها بنزهة أخرى أكثر جمالاً، قبل أن يُقتل، فتهرع إليه في ثلاجة الموتى لتودّعه.
كم صورة لهم، أولئك الذين قتلتهم إسرائيل؟ وإلى متى علينا أن نحدّق فيها لنقول لهم إنهم موتى الآن، وإنهم هم من ينظرون إلينا من هناك، ويحدّّقون في وجوهنا، ويأسوْن لحالنا ومآلنا، نحن العاجزين في بيوتنا، الذين بلا أرض ولا سماء تظلل طريقنا وحياتنا، نحن الذين أقطع ربهم أرضنا لهم، وتركنا في عراء الأمم.
وما تفعله الكتابة أنها تمنحك الوهم، والعزاء الغامض، والشعور بالتطهّر، لكنّه الدم ما زال يُسفَك في غزّة، وثمّة آياتٌ أُخَر يذهبن ملهوفاتٍ غير مصدّقات إلى مستشفيات غزّة، إلى ثلاجات الموتى، ليحدّقن بعيونهم الجميلة المطفأة في جثث شبّاننا الغزّيين هناك، فلا يبكين إلا دماً.

Related News
