
بين ضباب الأطلسي ونسمات البحر الأبيض المتوسط، تطلُّ مدينة طنجة علامةً بارزة على تقاطع الجغرافيا بالتاريخ، وكمرايا أدبية تعكس وجوهاً متعددة: طنجة الكولونيالية، وطنجة الجواسيس، وطنجة الشعراء المنفيين، وطنجة الحلم والأسطورة، وطنجة الحنين والذاكرة. هذا الحضور المتنوّع للمدينة شكّل محور الأمسية الأدبية التي نظّمها البيت العربي في مدريد، مساء الاثنين الفائت، تحت عنوان "عبق طنجة في كتابين".
جمعت الفعالية الكاتبين الإسبانيين ألبرتو غوميث فونت ولويس سلفاغو، اللذين قدّما عملين أدبيين تتقاطع أحداثهما في مدينة طنجة، باعتبارها فضاءً روائياً وسردياً غنياً، وملاذًا تتلاقى فيه الحكاية بالخيال، والذاكرة بالتاريخ.
البداية كانت مع ألبرتو غوميث، وكتابه "كوكتيلات طنجة من الأمس واليوم" (2024)، حيث أعاد الكاتب تشكيل صورة طنجة من الحديث عن كتابه الذي يتألف من 34 قصة قصيرة، تتقاطع فيها عوالم الجواسيس والتجار والمهربين، مع طقوس الحياة اليومية والتفاصيل الحسية، كتحضير الكوكتيلات بنكهات شرقية: التمر، النعناع، عصير الليمون.
القصص، التي تمتد عبر أزمنة متعددة، تُعيد للقارئ أجواء طنجة الدولية، تلك المدينة التي شكّلت يوماً نقطة التقاء للثقافات واللغات والأهواء. لكن المدينة هنا ليست نوستالجيا فقط، كما عبّر الكاتب، بل هي كيان حيّ يعود للحاضر. وهو ما حاول التعبير عنه من خلال الطبعة الجديدة للكتاب التي أضاف إليها اثنتي عشرة قصة جديدة، يستحضر في إحداها "فيلا يوجينيا" المختفية، ويعيد من خلالها رسم معمار طنجة الذي يأبى أن يُنسى.
أما رواية "جوزفين" (2024) للويس سلفاغو، فنعلم من الكاتب أنها تدور بدايةً حول باريس، حيث تستيقظ البطلة جوزفين بجوار رجل لا تعرفه، في منزل قد لا يكون منزلها. ولكن مع توالي الصفحات، يتحوّل الالتباس المكاني إلى رحلة عبر الذاكرة، وتقودنا جوزفين إلى طنجة، ليس بوصفها مدينة جغرافية فقط، بل مكانا للدهشة واللايقين. تشكّل طنجة في الرواية فضاءً زئبقيّاً، تتلاشى فيه الحدود بين الحلم والواقع، وتظهر مدينةً بديلة، تتقاطع فيها الذكريات مع الأطياف. كأنّ جوزفين، في سعيها لفهم ما يحدث، تستدعي طنجة بما هي منفى داخلي، ومرآة لما فُقد.
تتقاطع فيها عوالم الجواسيس والمهربين مع طقوس الحياة اليومية
تكشف الأمسية عن تحول طنجة في الأدب المعاصر إلى رمز غني، متعدد الوجوه. في كتاب فونت، نجد طنجة الحسية – مدينة الكوكتيلات والعطر والأحاديث الليلية. وفي رواية سلفاغو، نجد طنجة الذهنية – مدينة الالتباس والهوية والانكسار. كلا الكاتبين يعيدان للمدينة مكانتها منصةً سردية لا تنضب، حيث يلتقي الشرق بالغرب، ويصبح المكان وسيلة لاكتشاف الذات.
في زمن تزداد فيه الحاجة إلى أدب يعبر الحدود، تشكّل طنجة، كما ظهرت في "البيت العربي"، جسراً بين الأجيال واللغات والثقافات، لا يزال يعبره الكُتّاب وتتبعه أرواح القرّاء.

Related News
