
يعود حمادة، وهو نجار خمسيني يعيش في القاهرة، إلى منزله آخر اليوم منهكاً بعد أن أمضى يومه بين الخشب والمسامير باحثاً عن زبون لا يُساومه على ثمن طاولة، أو تاجر يرضى بتأجيل تسديد ثمن الأخشاب. بعد أربعين عاماً من العمل، لا يزال حمادة يشعر كأنه يبدأ من الصفر مع كل مشروع، يتابع الأسعار المتقلبة ويُعيد تسعير بضاعته، ويعتذر أحياناً للزبائن حين تقفز تكلفة المواد فجأة.
ليست حكاية حمادة استثنائية، بل مرآة لواقع آلاف الحرفيين في مصر، الذين يعيشون على حافة الخطر، بين التضخم والإهمال، من ورش النجارة وصناعة الأثاث إلى معامل الألبان ومحلات المنظفات ومشاغل الجلود، تحوّلت حياة أصحاب المشاريع الصغيرة إلى صراع يومي من أجل البقاء.
رغم أن الحرفيين يشكّلون عماد الاقتصاد غير الرسمي، ويساهمون في خلق فرص عمل وتلبية احتياجات المجتمع، يعانون من غياب أي مظلة حماية اجتماعية أو دعم حكومي فعلي، بينما تواصل الدولة مطالبتهم بالاندماج في السوق الرسمية من دون أن توفّر لهم الحدّ الأدنى من شروط تحقيق هذا الأمر.
يحترف حمادة النجارة منذ عام 1983، بدأت مسيرته المهنية "صبيَّ ورشة" لدى نجار سوري، ثم أتقن أعمال الدهانات والتشطيبات، وأصبح اليوم صاحب ورشة متخصّصة في صناعة الأثاث والديكور الخشبي.
ورغم خبرته الطويلة، يدير ورشته منفرداً معظم الوقت، ولا يستطيع توظيف عمال دائمين بسبب ضعف رأس المال. ويشكو من اضطراره لشراء الخامات بالدين، والاعتماد على تقديمات العملاء في ظل التقلبات اليومية في أسعار الخشب والدهانات، ويقول لـ"العربي الجديد: "تتمثل المعادلة البسيطة جداً في عملي في أنه إذا رفعت السعر فجأة يهرب الزبون، ولو التزمت بسعر قديم أتكبد خسارة لا يمكن أن أعوضها بسهولة، لذا أطالب الدولة بدعم أصحاب الورش الحرفية مباشرة عند رفع الحد الأدنى للأجور لأنّ الزيادات تذهب للموظفين ويتحمّلها أصحاب الورش".
"راح الرزق"
ويقول أبو معاذ (47 عاماً) الذي يعيش في القاهرة، لـ"العربي الجديد": "اضطررت إلى تغيير مهنتي بعدما منعتني إصابة في العمود الفقري من العمل في تركيب السيراميك. تعلمت صناعة الصابون السائل، وبدأت في إنتاج ديتول وكلور ومنعم أقمشة في منزلي ثم فتحت محلاً صغيراً"، ويتابع: "في البداية كنت أحقّق مكاسب جيدة، والآن العلبة التي كنت أشتريها بثمانية جنيهات (16 سنتاً) أصبحت بـ12 جنيهاً (24 سنتاً)، ولا يستقر أي سعر لمدة يومين كي أستطيع التكيّف معه في نسبة الأرباح التي أحققها. أدير دخلي عبر الاشتراك في جمعيات، لكن مع ارتفاع الأسعار، لم يعد رأس المال يكفي. أنا لا أطلب دعماً، بل رقابة تنقذني من الغرق فحسب".
ألبان طبيعية ضدّ عمالقة السوق
من جهته، أطلق سمير شرف من الزقازيق علامته التجارية للأجبان الطبيعية بعدما عمل سنوات في مصانع ألبان، وهو يشغل 14 عاملاً، ويعتمد في التمويل على ميراثه الخاص وأرباح المشروع، ويقول لـ"العربي الجديد": "أبرز التحديات هي المنافسة غير المتكافئة مع المصانع الكبرى، وغياب الحوافز الضريبية والتشريعية. اقترح إنشاء مزارع مواشٍ صغيرة مرتبطة بالمنتجين لتوفير اللبن الخام بأسعار مناسبة. مشكلتنا ليست في الإنتاج، بل في القوانين والمنافسة التي تأكل مداخيلنا".
بكالوريوس... وورشة موبيليا
وبالانتقال إلى هاني الأسواني (37 عاماً) فهو تخلى عن العمل بشهادته الجامعية ليدير ورشة أثاث تضمّ ثمانية عمال. وكان بدأ في تعلم المهنة منذ سن العاشرة ثم استثمر مدخراته، وهي 400 ألف جنيه (8100 دولار) في المشروع، لكن حلمه اصطدم بتقلبات أسعار الخامات وارتفاع تكلفة المستورد، إضافة إلى تعقيد إجراءات الترخيص، ويقول لـ"العربي الجديد": "أرفض اللجوء إلى القروض البنكية خشية الوقوع في غرامات تأخير. ولو تدعم الدولة الخشب المحلي وتسهّل المعارض، كنّا نافسنا تركيا والصين".
بين الشغف والمصاعب
تقول الزهراء محسن (43 عاماً) من الزقازيق، وهي مدرّسة تدير أيضاً مشروعاً منزلياً للمصنوعات الجلدية، وتعمل بمساعدة عاملتَين، وتستخدم الجلد الطبيعي والإكسسوارات المستوردة، لـ"العربي الجديد": "أواجه صعوبات في التسويق، وفي التعامل مع ارتفاع أسعار الخامات وتعقيدات الإجراءات الحكومية. ورغم عدم تسجيلي المشروع رسمياً، لكنّني بدأت أشعر بأعباء مالية مع توسّع النشاط. وقد انضممتُ أخيراً إلى دورة تدريبية في التسويق الرقمي لأنني أريد أن أجد مكاناً أعرض فيه شغلي من دون أن أدفع خمسة آلاف جنيه (102 دولار) في بازار كل أسبوع".
الجباية بدلاً من المساندة
ويرى الخبير الاقتصادي أحمد ذكر الله، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "الحكومة فشلت في دمج الاقتصاد غير الرسمي بسبب منهجها القائم على الجباية أولاً، فهي تريد أن يدفع الحرفي الضرائب والتأمينات فوراً من دون أن تقدم له تدريباً أو تمويلاً أو تسويقاً".
ويقترح تقديم إعفاءات ضريبية وتأمينية مؤقتة، وأن تتعاون الدولة مع الجمعيات الأهلية لتقديم الدعم الفني والترويجي بدلاً من الاعتماد على الجهاز الإداري البطيء والمركزي.
أما المحاضر الاقتصادي معتز عسال فيقول لـ"العربي الجديد": "يفتقر معظم أصحاب الورش إلى المعرفة القانونية، ما يؤدي إلى أخطاء مكلفة عند تأسيس مشاريعهم، والدعم الذي يتوفر حالياً، مثل مبادرات التمويل من وزارة الشباب لا يكفي لبناء ثقة حقيقية".
ويلفت إلى أهمية دعم التوسّع في التجارة الإلكترونية وتوفير تدريبات تقنية، وتعزيز تحالف الحكومة والمجتمع المدني والقطاع الخاص لتحفيز العمل الحرّ، وخلق بيئة جاذبة ومستقرة.
ويؤكد الخبير الاقتصادي عبد الحفيظ الصاوي، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنّ "الأعباء الضريبية تخلق فجوة بين الدولة وأصحاب المشاريع الصغيرة الذين يضطرون إلى التهرب من التسجيل الرسمي، والمطلوب هو تشريع ضريبي داعم يربط ما يدفعه المواطن بالخدمة التي يتلقاها".
ويحذر من غياب الحوافز لدى الشباب لدخول هذا القطاع، في ظل ضعف الدخل وغياب الأمان الاجتماعي، ويقترح تنظيم معارض بأسعار رمزية، وتمويل مشاريع صغيرة بفوائد حقيقية لا تتجاوز 10%.
ورشة تصنع اقتصاداً
ويكشف تقرير أصدره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن نحو 5.9 ملايين شخص يعملون لحسابهم الخاص في مصر، من بينهم 1.4 مليون يشاركون في أعمال أسرية من دون أجر، بينما تنتشر 24.879 ورشة في القاهرة وحدها،
ويساهم هذا القطاع في خفض معدل البطالة إلى 6.3%، وتعد الورش الغذائية والهندسية الأكثر انتشاراً. ورغم مساهمته الواضحة، لا يزال يواجه مشكلات في التمويل وضعف الهيكلة، وتعقيدات إدارية كبيرة مقابل وجود فرص واعدة في التوسع الرقمي والتصدير.
ورغم تمسّكهم بالصمود يواجه الحرفيون وأصحاب المشاريع الصغيرة خطر الإقصاء من السوق، وسط غياب منظومة دعم فعّالة. وبين تقلبات الأسعار وغياب التسويق وثقل الأعباء الضريبية يظلّ القطاع غير الرسمي أضعف من أن يتحمل وحده كلفة الاقتصاد.
ويرى خبراء أنه إذا حاولت الدولة دمج هذا القطاع ضمن المنظومة الرسمية يجب أن تبدأ بتقديم الثقة لا المطالب، والدعم لا الجباية، وبناء بيئة إنتاجية تسمح لهذه الورش الصغيرة أن تزدهر وليس أن تنقرض.

Related News

