منذ أن خطّت الإنسانية أوّل سطور الحضارة، والصراع بين الفكر والسلطة يتجدّد بأشكال وألوان مختلفة، إذ لم يكن التاريخ يومًا محايدًا أمام من تجرّأ على التفكير خارج القوالب الجاهزة. فمن الحلاج إلى غاليليو، ومن الإمام أحمد بن حنبل إلى محاكم التفتيش، ظلّ سؤال حرية الرأي والفكر معلّقًا بين مقصلة السلطة وخوف المجتمع.
الحلاج، الذي وقف في شوارع بغداد يهتف "أنا الحق" لم يُسمع له صوت العقل ولا لغة التأويل، بل أُسكت صوته بالسيف، لأنّ كلماتِه أرعبت السلطان وأرهقت المؤسسة الدينية، فكان جزاؤه الجلد والصلب والقتل، لا النقاش والمناظرة. غاليليو، حين همس للتاريخ بأنّ الأرض تدور، لم يكن يحمل سيفًا ولا نارًا، بل تلسكوبًا ونظريات، ومع ذلك اقتيد إلى محاكم التفتيش الكاثوليكية واتُّهِم بالهرطقة، لأنّ فكرَهُ هزّ عروشَ الجهل ولو بعد حين.
حين يُغضِب الفكر السلطة يُجرّ إلى المحاكمة لا إلى المناظرة
الإمام أحمد بن حنبل حين رفض القول بخلق القرآن، لم يُستقبل بالحُجّة بل بالسياط، ورُميَ في السجون لأنّ عقله اختار أن يختلف مع سلطة العصر. وهكذا ظلّ العقلُ العربي والإنساني عمومًا يدفع ضريبة التفكير والبحث والاختلاف.
بلغيث… إعادة إنتاج المأساة
يكتشف الرأي العام في الجزائر اليوم أنّ التاريخ لا يرحل، بل يُعيد نسجَ نفسه بأسماء جديدة وظروف مختلفة، لكن الجوهر واحد: الفكر حين يُغضِب السلطة يُجرّ إلى المحاكمة لا إلى المناظرة.
الدكتور محمد الأمين بلغيث رجلٌ لم يُعرف عنه حملُ السلاح ولا التحريض على الفوضى، بل حَمَل القلم والمجلّدات، وأمضى أربعة عقود في البحث والتدريس والتأليف في تاريخ الجزائر والمغرب الإسلامي. رجلٌ ألّف أكثر من 23 مجلدًا في التاريخ، بلغ عدد صفحاتها 12 ألفًا بلُغات ثلاث. عكف على دراسة الأندلس، والغرب الإسلامي، وتاريخ الجزائر الحديث. لكنه اليوم، بين جدران السجن، ليس لأنه اعتدى على أحد، بل لأنه قال رأيًا في قضية الأمازيغية، رأيٌ صُنّف بأنّه تهديد للوحدة الوطنية ومساس بالثوابت. وقد يكون الرأي مستفزًا، صادمًا، بل وخاطئًا في تقدير البعض، لكن: هل الخطأ الفكري يُواجه بالقيد؟ أم بالحُجّة والمناظرة؟
قساوة الحكم القضائي… حين يُساوى المؤرخ بالمجرم
مع كامل الاحترام لمؤسسة القضاء بأحكامها وتشريعاتها واستقلاليتها، يبقى من الصعب على العقل أن يستوعب بسهولة الحكم القاسي الذي صدر بحقّ الأستاذ بلغيث: خمس سنوات سجن نافذ وغرامة مالية ثقيلة قدرها خمسون مليون سنتيم. حكمٌ بهذا الحجم لا يُمكن إلا أن يُقارن بأحكام تُصدر عادة في قضايا المخدرات، أو عصابات الأحياء، أو شبكات الإجرام المنظّم، لا في قضايا فكرية يُختلف حولها.
إنها مفارقة عجائبية، أن يُعامل الباحث والمؤرّخ الذي كرّس حياته للبحث الأكاديمي التاريخي، كمن يتاجر بسموم تُفتك بشباب الجزائر أو كمن يُرهب الأحياء ويُشيع الفوضى فيها.
مفارقة عجائبية، أن يُعامل الباحث والمؤرّخ الذي كرّس حياته للبحث الأكاديمي التاريخي، كمن يتاجر بسموم تُفتك بشباب الجزائر أو كمن يُرهب الأحياء ويُشيع الفوضى فيها
وحين تسألنا الأجيال القادمة، أو حين يقرأ العالم عن سَجن الأفكار والأبحاث والتاريخ في الجزائر، أيّ جواب سنُقنعهم به؟ هل سنُحمّل أنفسنا بوصفنا مجتمعا مسؤولية الخوف والصمت؟ أم نُلقي اللوم على السلطة بما هي مؤسسات؟ أم نُشير إلى أيادٍ خفية تتربّص بهذا الوطن وبكلّ ما هو جزائري؟ أسئلة معلّقة في الهواء، لن تُجيب عنها سوى الأيّام وقرارات العقلاء.
تعاطف أكاديمي وشعبي واسع
رغم قساوة المشهد، إلا أنّ بلغيث لم يُترك وحيدًا في مهبّ العاصفة، بل يلقى تعاطفًا واسعًا داخل الأوساط الأكاديمية والثقافية والشعبية، تجلّى ذلك من خلال حملة توقيعات إلكترونية لعريضة شعبية طالبت بمحاكمة عادلة ونزيهة له، تجاوز عدد موقعيها مليون شخص في ظرف أيّام فقط، في مؤشّر واضح على عمق القلق الشعبي من تراجع هامش حرية التعبير والنقاش الأكاديمي في الجزائر.
ويرى مراقبون أنّ محاكمة بلغيث ليست معزولة عن سياق أوسع، بل تُعدّ رسالة ترهيب واضحة للباحثين والمؤرخين تحذرهم من الاقتراب من بعض الملفات الحسّاسة، وتدفعهم إلى توخي الحذر الشديد في تناول المواضيع المُرتبطة بالهُويّة الوطنية، كما عبّر أحد الأساتذة صراحة بالقول: "نحن نعيش عصر الأفكار المسجونة بقانون العقوبات".
مأزق السلطة... انقسام النخبة
دخول قوى سياسية وأكاديمية موالية أو قريبة من السلطة على خطّ الأزمة زاد المشهد تعقيدًا، وأبرز هشاشة المقاربة الحالية في التعاطي مع هذه القضية. وعبّر حزب حركة البناء الوطني، وحركة مجتمع السلم، بالإضافة إلى عشرات أساتذة التاريخ في الجامعات الجزائرية، عن رفضهم للزجّ بباحث أكاديمي في السجن بسبب رأي جدلي.
لا تواجه الأفكار بالسجون، بل بالعلم والحوار والمجادلة بالحسنى
رئيس حركة مجتمع السلم السابق، عبد الرزاق مقري، قال بوضوح: "لم يقل بلغيث شيئًا جديدًا البتة، كل ما تطرق إليه هو موضوع نقاش علمي وثقافي قديم، كُتبت فيه الكتب والمقالات والبحوث بلا حد ولا عدد، منها ما يؤيده ومنها ما يعارضه." وأضاف: "التصريحات المسيئة لعناصر الهوية الأخرى، كالإسلام والعربية، كثيرة، وثمة من فعل ذلك وهو مبجل ومقرّب في وسائل الإعلام ولدى السلطات، بينما بيان التلفزيون وتحريك القضاء ضد الدكتور بلغيث سيؤجّج الاحتقان الهوياتي".
المفارقة أنّ حتى التيار البربري الأمازيغي، الذي يفترض أنه خصم فكري لبلغيث، أبدى رفضه لأسلوب التعاطي القمعي مع القضية. واستنكر رئيس حزب التجمع من أجل الثقافة الديمقراطية، عثمان معزوز، سجن بلغيث، رغم استنكاره أيضًا لتصريحه. وقال: "سجن أي شخص بسبب رأي أو فكرة يُعد مؤشرًا على فشل المجتمع في ممارسة النقاش والإقناع، فالمجتمعات الديمقراطية لا تخاف من الأفكار، بل تواجهها بالحوار والعقل". وحذّر من أنّ "القمع يؤدي إلى فرض فكر واحد قائم على الخوف لا على الحقيقة، وأنه من حق كل جزائري في التعبير الحر، والرد على الآراء المتطرفة يجب أن يكون بالعقل لا بالزج في السجون".
من محاكم التفتيش إلى استنساخها العصري
ليست الجزائر وحدها من تسقط في فخّ محاكمة الرأي بدل محاورته، بل العالم العربي كلّه يُعيد إنتاج محاكم التفتيش بطريقة أكثر أناقة، لكنها بنفس القسوة. محاكم اليوم لا تحمل صليبًا ولا تُلوّح بإحراق الكُتُب، لكنها ترفع شعار الأمن القومي، حماية الثوابت، وحدة الأمة، وكلّها شعارات مقدّسة، لكن المأساة تبدأ حين تتحوّل إلى أداة لإسكات الفكر بدل تقويته.
الحلاج قُتل، لكن تصوّفه انتشر، غاليليو أُدين، لكن الأرض واصلت دورتها، الإمام ابن حنبل سُجن، لكن فكره أصبح مذهبا عقائديا للملايين
الذين يظنون أنّ محاكمة بلغيث ستحمي الهوية الوطنية يتجاهلون حقيقة بسيطة: الأفكار لا تُقتل بالسجون، بل بالعلم والحوار والمجادلة بالحسنى. الحلاج قُتل، لكن تصوّفه انتشر، غاليليو أُدين، لكن الأرض واصلت دورتها، الإمام ابن حنبل سُجن، لكن فكره أصبح مذهبا عقائديا للملايين.
الأوطان القوية تواجه الكلمة بالكلمة
الدول التي تحمي نفسها بحقّ تُحاكم الرأي بالرأي، لا بالحبس، تُطوّق الفكر المتطرّف بالبحث العلمي والمناظرات المفتوحة، لا بمحاضر الضبطية القضائية. الجزائر ليست دولة هشّة، ولا شعبها قابل للتفكّك بسبب رأي أكاديمي ولو كان صادمًا، بل هذا الشعب الذي صمد في وجه الاستعمار والإرهاب والتخريب أذكى من أن يُهتزّ بكلمات في برنامج تلفزيوني. لكن ما قد يهزّ البلاد حقًا هو غلق أبواب النقاش، وتجريم الرأي، وتحويل الجامعات إلى مؤسسات صامتة تخشى التفكير.
لا أحد فوق القانون… لكن لا قانون فوق الحوار
لا أحد يدّعي أنّ حرية التعبير مطلقة، ولا أحد يُسوّغ المساس بالثوابت الوطنية أو زرع الفتنة. لكنّ القوانين يجب ألا تتحوّل إلى محاكم تفتيش حديثة يُكمّم بها الأفواه الأكاديمية، ويُقمع بها الفكر النقدي. بلغيث قد يُخطئ كما أخطأ غيره، لكن السجون ليست منابر علمية، والقيود ليست حججًا فكرية، والحوار وحده هو الذي يُحصّن المجتمعات، لا الخوف ولا الصمت.
الكرة الآن في ملعب رئيس الجمهورية، القاضي الأوّل في البلاد، فإمّا أن يُبادر بالعفو عن الرجل ويكون بذلك قائمًا بالعدل، مُعليًا شأن التهدئة والحكمة، وإمّا أن تُترك الأمور على حالها، فنخشى أن يفتح ذلك الباب لمزيد من سوء الفهم والانقسام غير المأمول.. والتاريخ لا ينسى.
Related News

